::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
أقف على حافة البحر الذي يصب فيه النيل فيضه محملا بهداياه الثمينة ذات الأصول السوداء الحارة .
أردد في نفسي كيف لهذا النيل الطويل العمر والمسافات أن يستمر دون أن يستوقفه عائق أو أن ينال من عطاءاته طامع ؟ وكيف لي أن أراه كريما راضيا ببطولته تجاه أراضينا القاحلة من غير مياهه ، دون أن أذكره في مجالس الذكر .
رغما عني أستمع إلى أصوات أفراس هذا النهر التي كانت تسبح فيه يوما ، وأحمد الله أنني ما قابلت يوما في أي من أيامي تمساحا من تماسيحه .
بالرغم من إنني لا أجيد السباحة إلا إنني أستمتع جيدا بالطفو ، وأحب ألوان الأسماك رغم أنني لست صبورا على اصطيادها ، وعندما أحسست بالغرق في أيام مضت لم أخزن في ذاكرتي غير ما شعرت به من إقتراب الموت في راحة ورضا ـ على غير العادة ـ من ضميري الذي يؤلمني كثيرا .
تأتي عروس البحر لتقترب مني دون أراها ، وعندما أشعر بأنفاسها الساخنات تطوقني شيئا فشيئا أتوجس منها خيفة ورهبة رغم ما فيها من جمال ورقة وخشوع .
أجلس معها على شط واسع مملوء بالأصداف الرقيقة وكلانا يمد رجليه وقدميه في المياه الساكنة ، أسألها أن تعطيني شربة ماء على الرغم من خواء معدتي وإحساسي بالجوع ، تملأ هي كفيها بماء صافٍ لأشرب ، ولأطلب منها أن تزيدني .
ألاحظ خطوط الحظ التي في يديها ـ التي تصب في اتجاه وحيد ـ وقد اختفت معالمها وأثارها ، وأخبرها أن خطوط حظي أكثر وضوحا وافتراقا ، أقبض على يديها علني أتلمس طريقى القادم بهداية من هذه الخطوط المحظوظة لأنها سكنت تلك الأيدي الناعمة .
تهمس بأذني أنها ترتاح على كتفي وتحس بالأمن والأمان ، فأسألها : " ألا تأمنين البحر وأنت عروسه ؟ " . أعرف أنها لم تكن أبدا راضية في ظل وحشة البحر وظلمته ، أنظروا إليه فما يظهر على سطحه لا ينبئ أبدا إلى ما في جوفه ، إنه غادر دائما .
أحس اقترابها مني أكثر وأحس بنوبات الكهرباء السارية في جسدي حتى يصيبني الشلل وتمنعني التحرك .
أطلب منها أن أرحل لأنني لست أهلا للحظة والحدث ، وتجيب إلي طلبي رغم ما أحس في عينيها من حزن لابتعادي ولاضطرابي المفاجئ .
نقف مودعين بعضنا وجها لوجه وعينا لعين وأنفا على أنف ... ياله من اقتراب ... ياله من سحر .
تسألني في مكر ورقة : " إمشي " ... " ها " ... كانت تلك إجابتي ...
تكرر : " يلا أمشي " .. " ها " ...
" بقولك امشي " ... " ــــــــــــ " .
هكذا إذن ليس هناك ما يمنع من البلوغ فقد تركت المراهقة منذ زمن بعيد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق