- ـ جدي لأبي :
- لا أتذكر منه غير أنه كان نورا ، كان سكينة ورحمة ، كنت أحبه كثيرا جدا ، أكثر من علقت روحي معه في غير وجوده ، رحل عنا وأنا في سن صغيرة ، لكنني كنت أراه دائما بداخلي ، وارتبطت به إرتباط الفرع بالأصل .
- أصحو مبكرا لأذهب للمدرسة ، لم أبلغ الخامسة بعد من عمري ، أغسل وجهي وأرتدي ملابسي ، ألتقط حقيبتي الحمراء الصغيرة وأتوجه على الفور لغرفته ، ألقي عليه تحية الصباح فيعطيني خمسة قروش ـ شلن ـ ، يا لفرحة قلبي .. (( معايا شلن ، هعمل كل اللي نفسي فيه )) أقبل يده البيضاء ، وأحتضنه .. وأجري منطلقا كعصفور يتعلم مبادئ الطيران .
- يدخل عمي الأصغر من بوابة البيت الحديدية حاملا حقيبة سفره ، وأنا أقف وسط أناس كثيرين لا أدرك أسمائهم ولا أشكالهم ، يرتمي هو في أول حضن يقابله ، يبكي وبحرقة ، أسمع جيدا نحيبه فأبكي لأني أحب عمي ، أسمع الأصوات التي تدل على الفقد والضياع ، يسكت أبي كل الأصوات يزجر كل من جاء بصوت من النار ، أين جدي؟! أين الخمسة قروش ؟ أين أنا ؟!ـ
- بعد عشرين عاما فوق الخمسة التي مضت .. أفتح جهاز الكومبيوتر وأضع اسطوانة ميديا وأشغل الملف الموجود بها على برنامج ميديا بلاير ، أرى جدي يتوسط الناس الذين يشكلون جمعا غفيرا .. تظهر الصورة وهم يتزاحمون عليه .. يحاولون التقرب منه .. يتلمسون أطراف حديثه العذب .. وبسمته المؤمنة بأن الحياة روح جميلة وقلب مطمئن .
- يسأله احد تلاميذه : (( عمي . أخبرنا عن الحلال والحرام ))، يرد عليه بعد سكوت واثق : (( الحلال بين والحرام بين )).ـ
- يخبرني أبي أن شجرة التوت التي قطعناها اليوم لتوغل جذورها تحت أرض البيت ، كانت نبتة من زرع يد جدي ، رأيتها وهي تبكي ، رأيت هذه الشجرة وهم يزيلون أثارها .. وهي الأن تبكي !!ـ
- ـ جدي لأمي :
- بُعد موطن إقامتنا عن محل إقامة أسرة أمي كان سببا رئيسيا في عدم الأرتباط بالأحداث التي كانت تقع بعيدا عنا هناك ، إلا أن الصلة التي حافظت على وجودها أمي وساعدها في ذلك أبي كانت لها السبب في وجود وصلات شعورية تغني في ظل بُعد المسافات.
- نذهب لنتحسس بعض الروائح ذات الصلة ، والعواطف التي لن يقدمها أخر غير من لهم المكان والمكانة هناك .ـ
- كان جدي رجل تجارة ماهر بذل أمواله من أجل تعليم أمي وإخوتها ، احتفظ أمامي بشكل واحد لا يتغير ، معالم ثابتة التشكيل ، وجه مرسوم بدقة النحاتين ، نظارته العريضة التي يحافظ على وجودها أمام عينية .
- أدخل أنا وأخوتي حانوته الضيق ، أتقدم للسلام عليه مقبلا يديه فيبتسم ابتسامة المحب ، لكن ما تلبث قسماته في الرجوع لشكلها الأصلي الذي ليس جديدا علي .
- نتجمع كلنا أمام التلفاز نحكي ونستمتع ، نلقي النكات ، نتبادل التعليق على أحداث الكون التليفزيوني الظاهر عبر برامجه ومسلسلاته ، يمر جدي بسرعة أمامنا ، وبحركة أسرع يفصل الكهرباء عن التلفاز ، ثم يكمل مروره حيثما أراد .
- أثور وأخوتي غاضبين ، فتقوم أمي لتعيد للتلفاز صوته وصورته التي إنقطع استرسالهما منذ لحظات ، تمر الدقائق السريعة ، ويمر جدي من جديد عائدا أمام التلفاز ليكرر فعلته القديمة ، هذه المرة لا تحدث ثورة ولا غضب .. أقوم أنا في غمرة الضحك الهيستيري لأعيد توصيل الكهرباء مجددا ، رغم أننا لم نكن في حاجة أبدا لمشاهدة التلفاز .
- نفس المشهد المكرر ، الوقوف في لحظة الوداع والبكاء ، رسمة الحزن الطوافة على جميع الوجوه ، التعازي الحارة التي لا تسمن أو تغني من جوع ، الكراسي المتراصة جنبا إلا جنب ، القارئ الشيخ ، الميكروفونات والسماعات الكبيرة ، طابور المعزين ، تكل يدي من كثرة السلام والتصافح ، لم يكن يهمني ساعتها غير النجاح في إمتحاناتي المدرسية .
- ـ جدي ( عم أبي ) :
- حسن ـ وهو فعلا حسن ، كل زياراته القليلة التي جاء فيها لبيتنا كنت حريصا على وجودي أثنائها .
- توقظني أمي مبكرا ، تأمرني أن أذهب لبيت جدي فلان لأحضر اللبن كي تعد فطور جدي فهو ضيفنا جاء من مصر السفلى ، أذهب دون لكاعة ، أركب دراجتي سعيدا ، أحمل بيدي اليمنى ( شفشق اللبن ) ، ماسكا بيدي الأخرى مقبض الدراجة ، يد فرامل الدراجة من الناحية اليمنى لكنني لأ أستطيع مهما حاولت أن احمل هذا ( الشفشق الممتلئ باللبن ) بيسراي ، هي أضعف من ذلك بكثير .
- أتوكل على الله .. أسير في طريق العودة للمنزل ، أسير بهدوء .. قطعت هكذا نصف المسافة ، لم يتبق غير بعض الامتار ، بضع لفات صغيرات من عجلات دراجتي ، تبديلتين وأتركها بعدها تسير وحدها ، دراجتي تعرف جيدا طريقها .
- هذه أول تبديلة بقدمي ، وهذه الأخيرة . يفاجأني مطب على جسر الطريق بالقرب من بيتنا ، كنت أنا من شرعت في إعداده البارحة وتركت أصدقائي ليكملوه .
- ترتفع الدراجة لأعلى ، يرتفع معها جسدي ، ترتفع يدي أكثر وأكثر ، (شفشق اللبن ) يتجه بيدي ناحية الغرب ، عجلة الدراجة الأمامية تتجه للشرق عن تعمد ، وأنا أنكب على وجهي في المنتصف (( لا حصلت شرق ولا غرب )) .. (( يا سلام طعم التراب باللبن أكيد هيكون فظيع )) قالها رجل رأني وأنا أرقص رقصتي الأخيرة .
- يرقد جدي الأن على فراشه الأبيض بمستشفى كائنة على كورنيش النيل ، يلتف حوله ملائكة الطب ، لا أعرف كيف يكون ملاكا من أمسك مشرطا ليذبح ؟! كيف يكون ملاكا من يسفك الدماء بحجة العلاج وطلب الشفاء ؟!
- (( ورم خبيث )) .. فعلا يالا خبثه .. لم يجد موطنا غير عقله ليكمن فيه ، يقول الطبيب : أن العملية الجراحية التي أجريت من أسابيع قد كتب لها النجاح ، لكننا نسأله : إذا لماذا هذا الإضطراب الذي يعانيه ، يخبرنا الطبيب الملائكي : أنه هو ـ أي جدي ـ لا يريد أن يعيش .
- يمضي النهار .. ويأتي الليل ، تسقط الشمس غرب النيل بكامل إحمرار خديها ، ويسقط في النيل معها كل الهدوء والسكينة ، أسمع النداءات المتتالية منه ، فلا أستطيع فعل شيء ، (( أحمد )) .. أرد عليه : (( نعم )) .. يسألني : (( فين أخوك )) .. أسأله : (( تقصد عمي أحمد )) .. يجيبني بالموافقة .. (( ؟ )) .
- يقول لي : (( عايزك تبقى قوي ؟ زيي وأنا صغير ، مكنش فيه حد بيضربني وكنت بضرب كل الناس )) ، أطمئنه أنني سأكون قويا وأنني سأعفو عن كل الناس .
- (( أقولك نكتة )) يسألني فأوكد له أني مشتاق لسماعها منه .. (( مرة واحد صعيدي جاله ورم في المخ .. ولما عرفوا أهله .. استغربوا .. وقالوا جاله منين المخ ده )) ... لا يضحك .. يسكت .. وأنا بداخلي تموت ثورات البراكين .
- حينما أراد الله له أن يرقد بجوار أخيه ـ جدي لأبي ـ كان كل الناس التي تعرفه فرحى ، ولم نكن أبدا للحزن معطوفين .
- ـ جدتي لأمي :
- (( يابن الصوبية )) تقصد أن تداعبني فتقول لي يا ابن الصبية .. جميلة الخدين والعينين والروح . وعند الكلام عن الروح يكون الحديث للقلوب لا للألسنة .
- أرى حبها الواضح لأبي .. حتى إنها لتناديني يا ابن ابني بدلا من يا ابن بنتي .. فأنا ابن إبنها مع إنها أم أمي .
- كل طاقات الحب البريئة والفل والياسمين وطعم اللوز في داخلها ، كل فراشات الأمل تقبع بجوارها ، كل عصافير الجنة تحت طلبها ، لم أعرف لها ضيقا أو تعاسة ، (( ساعات مش بفهم كلامكوا )) تقصدني أنا وأخوتي ، لكنني على علم من أنها تفهم بقلبها ما لا يفهمه ذوو العقول .
- تأتي كالملكات بين يديها الخير والفرحة ، على الرغم من إعاقتها بشلل نصفي ، إلا أن سعيها إلينا كل فترة كان أسرع من سعي الأصحاء ، أنام إلى جوارها ـ فهي عندما تأتي تحل ضيفة على سريري أنا ـ تحاكيني وتبتسم ، أنام ليلاتي بجوارها ، وفي قلبي أحلام ستتحقق في الصباحات الجميلات الأتية .
- نفس المنظر المكرر ، البناء الصغير ، قماش الشاش الابيض ، الدعاء ، التعازي الحارة ، الدموع ، البكاء .
- أما انا فلم أحس بشيء ، من ساعة سماعي الخبر ، وحتى هذا الموقف لم يعترني إحساس .
- ينصرف الناس ، أنصرف تبعا خلفهم ، أرى خالي الأصغر في حالة ممزقة ، لا يستطيع إمساك نفسه ، يواسيه الناس ، لكن دون جدوى ، فالدمع أهون الأمور حينها .
- مالي أنا .. أمشي مشية بلهاء .. هل جف قلبي عن الشعور ؟! .. أقف وأستدير عائدا ناحية قبرها .. تمر صورها العالقة بذهني مرتبطة بأحداث معينة .. تمر على ذاكرتي مرور شريط أفلام السينما على ألة العرض السينمائي .
- تخرج من صدري زفرات صدئة ، شهقات متتالية ، أنزف دموعا عصت على الخروج للفضاء ، أرق رقة الريشة التي لا تعرف مكانها الأخير رغم تعبها من الدوران والطيران في الهواء .
- هل فعلا سأفقدها للأبد ؟ !
- ـ جدتي لأبي :
- لم يكن يعنيني فيها الحنان أو الرقة ، بل كان ما يلفت انتباهي قوة الشخصية ، سمار اللون الترابي الأصيل ، أكتسبت منها الكثير ليس بإرادتي ، ولكن عبر الجينات والكروموسومات الدقيقة التراكيب .
- في الصغر .. وفي نفس التوقيت الصباحي المعتاد لطفل يبدأ أولى سنواته الدراسية ، وبعد أن أحتفظ في جيبي بالخمسة قروش التي نلتها من جدي ، أجلس بجوارها وهي تضع براد الشاي على الباجور ، بعد أن تنزل البراد الأزرق الذي أعتقد أن لونه كان سببا في حبي للشاي . تأتي بخبز (( البتاو )) وتكسر لي قطعة منه ثم تضعها على النار ، فتتلوى قطعة البتاو لتتخذ شكلا اسطوانيا فريدا ، لتعطيها لي ، فأغمسها داخل كوب الشاي الممتلئ ، ولأعيش لحظات الاستمتاع التي يعيشها الأن مدمني شكولاته (كادبوري) .
- كيف يتأتى لها في هذه السن كل هذه الهمة والنشاط ؟! إنه يا سيدي الضمير ، الذي نفتقده .
- لم يكن يعجبها العجب ، لأن الأفعال التي كنت أنت تراها كاملة ، كانت ترى فيها النقصان الواضح ، كان ينبغي عليك بذل مجهود أكثر .
- وأنا صغير ، وحين تحل ساعة النوم . كنت احب أن أنام في حجرها ، لتمرر يدها الخشنة على ظهري من تحت ملابسي ، ولتغطيني بجلبابها الفوقي ، ولتغني لي : (( هوه هوه هوه هوه ... نام يا حبيبي نااام .. وادبحلك جوزين حماااام .. هووووه هوووه )) .
- لم أرها من أربعة شهور مرت أو تزيد ، لم تنتظرني لأودعها وأقبلها ، لم تنتظر أن أكون بجوارها أو خلفها وهي راحلة ، كانت تعرف أني سأجيء من بعيد يوم الثلاثاء مساءا .. لكنها كانت قد رحلت في مطلع فجر نفس اليوم ..
لحظة الميلاد هي لحظة الإنفصال والابتعاد The whole world must give the moon the chance to show its beauty
الأربعاء، 12 مايو 2010
موال الفراق والحزن
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
هناك تعليق واحد:
اسلوب سرد جميل
تحياتى
إرسال تعليق