أولا : ملاحظات عامة على الأسلوب الروائي لـ ( باولو كويليو ) :
ـ يعتمد باولو كويليو على مرجعية دينية يستند عليها وتظهر في إلقائه للقارئ بعض أيات من التوراة والإنجيل طوال صفحات رواياته .
ـ يركز كويليو دائما على الصراعات النفسية التي تحدث داخل الإنسان الباحث عن هوية حقيقية في عالمه ، ذلك الإنسان المحاط بصعوبات وإضطرابات تحدث نتيجة الإرادة السلبية فيه ، أو نتيجة ما يحايط به من شخوص وأشياء وأحداث وقوى خارجية .
ـ دائما ما يسري في أبطاله الموجودين داخل رواياته أسرارا مكتومة وأنوارا مختفية داخل أنفسهم ، لا تظهر إلا إذا تنبه لها بطل الرواية وبحث عنها ، حتى عندما استخدم البطل " النبي " والذي ينبغي أن يكون مؤيدا من قبل الرب بمعجزات تيسر له العصيب من الأمور ، وتذلل له الصعاب ، كان هناك طوال الوقت مواقفا ينبغي فيها على النبي أن يستخدم بشريته وأفكاره وعقله دون مساعدة المدد المرسل من الرب المتمثل في صورة الملاك .
ـ يعتمد كويليو في أغلب رواياته التي قرأتها (*)على ذكر بعض أبطاله الموجودين في روايات أخرى له ، وكأنه يريد أن يكون لقارئه الخاص به خلفية لا تكتمل إلا بقراءة باقي الروايات الأخرى ، ليرسم صورة كلية غير الصورة الجزئية المكتملة في مخيلة القارئ العادي الذي لم يقرأ باقي رواياته ، ويجدر الإشارة أن اعتماده على ذكر أجزاء أو أبطال من روايات أخرى له في خضم الأحداث الموجودة بإحدى الروايات لم تخل بالمحتوى العام لها وكذلك لم يخل بالاحداث إن استقطعنا هذا الجزء المرجعي المأخوذ من إحدى رواياته .
ـ على الأغلب فإن الهدف الذي يبعثه كويليو في نفوس قارئيه عبر رواياته هو هدف مكرر ورسالة معلومة للجميع من قبل ، إلا أن هذا لم ينزع من رواياته جميعا الروح التي تبقيك مندهشا ومتتبعا ومشتاقا لمعرفة مجرى الأحداث والتفاصيل من البداية للنهاية .
ثانيا : لماذا اخترت الحديث عن رواية الجبل الخامس (**) دون باقي الروايات الأخرى ؟
على الرغم من إعجابي بكتابات باولو كويليو الروائية جميعها ، إلا أن أشد ما أثار إعجابي برواية الجبل الخامس هو اختيار كويليو لبطل الرواية تحديدا ، حيث تناول كويليو الجزء البشري الخالص للنبي (إيليا) بصورة عميقة جدا فسرت لدي بعض الأمور التي تغيب عنا في واقعنا الحاضر من حيث مفهوم النبي ، خاصة من الناحية ووجهة النظر الدينية البحتة ، التي تنظر للأنبياء جميعا بشيء عظيم من الوقار والعلو مما يمتنع معه البحث في تفصيلات حياتهم بشكل يؤهلك لاستخلاص نتائج منطقية تجدي للتطبيق على أرض الواقع الإجتماعي المحيط .
وبناء عليه فإن ما أثاره كويليو من وجود الصراع الربوبي البشري والمكرر دائما طوال أحداث الرواية ، بالإضافة إلى استنتاجات كويليو للحوار الدائر بشكل عفوي جدا بين النبي ونفسه حينما جاءه خبر السماء بأن الرب سوف يتركه ليعالج الأمور وحده وليستخدم عقله وفكره دون أن يكون له الحق في استخدام أو استدعاء المعجزات والمساندات الإلهية .
هذا الصراع الوارد في العهدين القديم والجديد (الإنجيل والتوراة) بين الرب وأنبيائه والذي كنت أنظر نحوه بريبة قبل قرائتي لهذه الرواية ـ الجبل الخامس ـ وكان دائما ما يعتريني السؤال : كيف يجوز للبشر حتى وإن كان نبيا مرسلا أن يصارع الرب ؟ وكيف ينطق الكتاب المنزل من عند الله بصراعاته التي حدثت مع البشر ولقى هزيمته فيها ؟! وكيف يهزم ـ أو كما جاء بالنص ـ يصرع المخلوق خالقه ؟!
واستخلصت من اسئلتي إجابة منطقية جدا ، أن التوراة والإنجيل قد تناولهما التحريف والتبديل من قبل الكهان والرهبان ، وقد يكون هذا الصراع المذكور بالأيات من ضمن ما أتت عليه يد التحريف .
إلا أنني عندما انتهيت من قراءة "الجبل الخامس" كان قد اتضح لي صورة تفسيرية لهذا الصراع النفسي الموجود داخل أيليا النبي ، وظهرت لي من مجرى الأحداث حقيقة الأمور كما رأها كويليو ، أو كما فسرها وفق خطوط روايته ، وكما تقبلتها أنا كقارئ يبحث عن التفسيرات ولا يبحث عن الإدانة والاتهامات .
ثالثا : مقتطفات من الرواية :
@ في بداية الرواية ـ صـ 19 ، 20 ـ يتناول كويليو حوارا بين إيليا واللاوي بين أسئلة على لسان الأول وإجابات مفسرة على لسان الأخير ، ليحقق في جزء إيماني مهم ، وهو الإيمان بالمقدرات وبإرادة الله :
(1)
(( إيليا : لقد خدمت ربا يسلمني الأن إلى أعدائي .
أجابه اللاوي : الرب هو الرب . لم يخاطب موسى ليقول له ما إذا كان خيرا أو شريرا ـ قال له فقط : إنه هو الكائن ، إنه كل ما هو موجود تحت الشمس ، إنه الرعد الذي يدمر البيت ، ويد الأنسان التي تعيد بناءه . ))
(2)
(( إيليا : من يكون الرب ؟ أهو من يمسك سيف الجندي الذي يفتك بمن بقى وفيا لإيمان أبائنا ؟ أهو الذي مسح أميرة على عرش بلادنا لتنزل كل هذه المصائب بجيلنا ؟ أهو الرب الذي يقتل المؤمنين والأبرياء أتباع شريعة موسى ؟!
اللاوي : اسأل الرب من يكون ، ما دمت تشكك في قراراته . أما أنا فقد قبلت بقدري .
إيليا بإصرار : لا يمكن للرب أن يرغب في أن يفتك بنا دون رحمة )) .
@ وبعد هذا الحوار بصفحات قليلة ـ صـ 39 ـ يطرح رؤية أخرى لمن يرون الدنيا سواداً وهلاكاً فقط :
(( سأل إيليا نفسه : أو أتذكر المرأة التي كانت تصنع الخبز ؟ كان إيليا يذكرها ، جاءت إليه تسأله أن يصنع لها بعض الأطباق الخشبية . وفيما كان ينجزها ، سمعها تقول إن الرب يتجلى في عمله .
وأضافت المرأة قائلة : يكفي أن نراقب الطريقة التي نصنع بها هذا الأطباق حتى نشعر بإحساس الخالق . فأنت تبتسم وأنت تعمل .
كانت المرأة تصنف البشر فئتين : السعداء في عملهم والمتذمرين فيه ، ويؤكد المتذمرون اللعنة التي أنزلها الله بأدم حين قال له : ملعونة الأرض بسببك ، بمشقة تأكل منها طوال أيام حياتك ، ويرون فيها الحقيقة الوحيدة . هؤلاء لا يجدون لذة في عملهم ، ويسأمون أيام الأعياد ، حين يضطرون للاستراحة . ثم إنهم يستخدمون كلام الرب ذريعة لحياتهم المجدبة متجاهلين أن الرب قال أيضا لموسى : الرب إلهك يباركك على الأرض ويعطيها لك ميراثا لتملكها )) .
@ وبعدها أيضا ـ صـ 68 ـ يطرح للقارئ ما حدث من معجزة إحياء الموتى التي ظهرت على يد إيليا والتي بدلا من أن تبعث في الناس حس الإيمان بوجود إله إيليا ، إلا أنها دعمت في قلوبهم إصرارا على الإيمان ببعل ورفقته ـ ألهة الجبل الخامس ـ ، ليجد إيليا نفسه محاورا ملاكه الحارس بمنتهى العجب والاستغراب من فعل الناس ، ملتبسا عليه الشك في قدرة نفسه على بعث الإيمان في قلوب البشر :
(( عندئذ ، سمع صوت ملاكه الحارس الذي يتحاور معه منذ الطفولة .
قال الملاك لإيليا : قابلتْ اليوم ملاك الرب .
أجاب إيليا : أجل ، لكن ملائكة الرب لا تتحدث إلى البشر ، بل تكتفي بنقل أوامر الله .
أمره الملك لحارس قائلا : استعن بقدرتك .
لم يفهم إيليا ما قاله .
ـ كل ما أملكه من قدرة أت من الرب .
ـ الجميع يملكون قدرة الرب ، لكن أحدا لا يستعين بها ))
@ ثم يرسل كويليو رسالة على لسان النبي إيليا للذين فقدوا معنى الحياة ـ صـ 69 ـ :
(( بعد ظهيرة أحد الأيام ، رجع إلى المنزل قبل الموعد المعتاد ، فوجد الأرملة جالسة على العتبة .
ـ ماذا تفعلين ؟ ـ لا شيء لديَّ لأفعله .
ـ إذا اعلمي أن في هذه اللحظة أناسا كثيرين يزهدون في الدنيا ، أناسا لا يسأمون ولا يبكون ، بل يكتفون بأن يدعوا الوقت ينقضي . هؤلاء لم يواجهوا تحديات الحياة ، وهي لم تعد تتحداهم . أنت تمرين بالوضع نفسه . تحركي ، واجهي الحياة ، ولا تستسلمي أبدا .
قالت وهي تخفض نظراتها :
ـ مذ حللت بيننا اكتسبت حياتي معنى جديدا ))
@ ثم ينتقل كويليو ـ صـ 111 ـ لإبراز الصراع الدائم بين الحرب والسلام أو بين الخير والشر ، بين من يلبسون وجه الدين ويتزيون بزيه وليس هم إلا أسلحة للشيطان الذي يكتسب قوته من وجودهم في مناصبهم الدينية ، يوضح أيضا إنجذاب العامة وتعلقهم بهم لأنهم ـ أي أولئك المتدينين الزائفين ـ ينطقون باسم الدين ، حتى وإن كانوا في ذلك العصر ينتمون لألهة الجبل الخامس وهي ألهة ضلال إلا أنهم موجودون في عصرنا بشكل واضح ولكن مع الاختلاف فهم في حاضرنا ينطقون باسم الله الواحد ، إلا أنهم على نفس منهاج سابقيهم :
(( انقسم الجمهور إلى فئتين : فئة تدافع عن السلام ، وفئة تطالب بأن تقاوم أكبر (***) .
قال الحاكم للكاهن بصوت منخفض : ـ هذا الرجل تحداني علنا ، لكن أنا أيضا فعلت ذلك .
التفت الكاهن ناحيته ، وتكلم بصوت خافت حتى لا يسمعه أحد ، آمرا الحاكم بأن يقتل الأشوري فورا :
ـ لا أطلب منك بل آمرك بذلك . أنا من يمسك بزمام السلطة ، وأستطيع إنهاء هذا الوضع ساعة أشاء ، هلا فهمت ؟ هناك قرابين أخرى يمكن تقديمها إلى الألهة ، وهي قادرة على تهدئة غضبها ، حين نضطر إلى تغيير العائلة الحاكمة . ولن تكون المرة الأولى التي تتغير فيها العائلة الحاكمة . ففي مصر ، وهي إمبراطورية يرقى عهدها إلى آلاف السنين ، جرى استبدال الكثير من السلالات الحاكمة . ومع ذلك ، ظل الكون منتظما ، ولم تسقط السماء فوق رؤوسنا .
علا وجه الحاكم شحوب ملحوظ .
ـ القائد موجود وسط الجمهور برفقة قسم من جنوده . إذا بقيت مصرا على التفاوض مع هذا الرجل ، فسأبلغ الجميع أن الألهة تخلت عنك ، وستتنحى عن العرش . لذا تابع المحاكمة ، وافعل بالضبط ما طلبته منك . ))
@ ثم يعود كويليو ـ صـ 117 ، 118 ـ ليناقش ما يدور في صدر النبي إيليا بعدما حدث أمام عينيه من موت رجل لم يستطع التدخل لإنقاذه ، ودارت في نفسه الشكوك مرة أخرى ، عن جدوى النبوة والرسالة التي بعث بها ، عن عجزه إيقاف الشر الذي يراه يسيطر ويكبر يوما بعد الأخر :
(1)
(( لم يرجع إيليا إلى الأرملة في ذلك اليوم ، بل سار على غير هدى في الصحراء .
قال للنباتات والصخور :
ـ لم يفعل الرب شيئا ، في حين أنه كان قادرا على التدخل .
كان نادما على قراره . واعتبر نفسه مرة أخرى مسئولا عن موت أحد الرجال . ))
(2)
(( شعر إيليا في هذه اللحظة ، التي كان يتجول خلالها في الوادي ، بالرغبة في أن يكون شخصا للأخرين ، لم يستمع قط إلى صوت الرب ، ولا إلى ملائكته .
لكن الحياة ليست سلسلة من الرغبات ، بل هي تحقيق أفعال كل شخص . تذكر إيليا أنه حاول عدة مرات أن يتخلى عن مهمته ، ومع ذلك فهو هنا في هذا الوادي لأن الرب طلب منه ذلك .
ـ " يا رب ، كان في استطاعتي أن أكون نجارا وأخدم مشاريعك " ))
(3)
(( قال إيليا : لم يعد لدي شيء أفعله هنا ، فمتى أعود إلى إسرائيل ؟
أجاب الملاك : حين تتعلم كيف تبني من جديد . تذكر ما قاله الرب لموسى قبل القتال . واستفد من كل لحظة ، إن كنت لا تريد الندم فيما بعد ، والتأسف على شبابك الذي ضاع سدى . فالرب يجعل لكل عمر همومه الخاصة به . ))
@ ويضع كويليو لنا ـ صـ 181 ، 182 ـ حكمة لمن تملكه اليأس من الحياة والمقدرات ومن فقد الدليل والإرادة لما واجهه من الصعاب ، حيث يقابل إيليا الراعي الذي يعلمه ذلك :
(( فأردف الراعي :
ليس صعبا إعادة خلق الحياة ، كما ليس مستحيلا إعادة إنهاض أكبر من بين أنقاضها . ويكفي لذلك أن ندرك أن لدينا القوة نفسها التي كنا نملكها في السابق ، وأ ن نستغلها لصالحنا .
نظر الرجل إلى إيليا مباشرة ، وقال :
إذا كان لديك ماضٍ ولم تكن راضيا عنه ، إنسه الأن . تخيل قصة جديدة لحياتك وأمن بها . أحصر اهتمامك فقط باللحظات التي وفقت فيها للحصول على ما تشتهيه . وهذه القوة تساعدك على نيل ما تريد ))
@ ويظل كويليو يرسم تصاعد الصراع ـ صـ 185،186 ـ واستمرار الشكوك واليأس في قلب إيليا حتى يرينا عبر حوار النبي مع رفيقه الصبي أو مع نفسه ذاك اليأس المحيط به من وجود قدرته كنبي ، ومن توفيق الله له ، لأن الله تركه يواجه الحرب والخراب وحده دون أن يسانده ، وتخلى عنه في وقت محنته :
(1)
(( قال الصبي : الرب الذي أعادني من الموت لا يزال حيا ، ويستطيع أن يعيد أمي إلى الحياة ، إذا أعدت المدينة إلى الحياة .
ـ إنس هذا الإله . إنه بعيد ، وهو لا يحقق المعجزات التي نتوقعها منه ))
(2)
(( قال إيليا متكلما لغة بلاده كي لا يفهم الطفل معنى كلامه :
ـ لديك كل قوة العالم والنجوم . تستطيع هدم مدينة وبلاد ، كما تسحق حشرة . أنزل إذا نار السموات ، وضع حدا لأيامي الأن وإلا عملت ضد إرادتك )) .
@ وحين يقترب كويليو من نهاية روايته ـ صـ 205 ـ يكون قد أظهر لنا حقيقة الصراع بين إيليا وربه مسترجعا صراع يعقوب أو إسرائيل المذكور بالكتاب المقدس ليعطينا الدرس من وجود هذا الصراع الحتمي لوجود قوة البشر على معالجة المشكلات وإيجاد الحلول لتكون أخيرا هي مشيئة الرب :
(( نهض إيليا وصلى قائلا :
"صارعتك يا رب ولست بخجل لاكتشافي أنني أمشي في طريقي التي اخترتها ، لا لأن هذه الطريق فرضهاعلي أهلي أو تقاليد بلادي أو أنت نفسك .
إليك يا رب أتوق إلى العودة الأن . وأريد أن أعطيك كل ما في إرادتي من قوة . وليس جبانا ذلك الذي لم يكن قادرا على سلوك طريق مختلف . لكن ، لكي تعهد إلي بمهمتك الجليلة ، عليّ أن أواصل هذه المعركة ضدك ، وأصارعك حتى تباركني ".
كانت إعادة بناء أكبر هي التحدي الذي ارتضى إيليا أن يواجه الله به ، وهي أيضا اللقاء المستعاد بالله ))
@ صـ 212 :
(( وسأحاربك حتى تباركني وتبارك ثمار عملي . ذات يوم ستستجب لي . ))
@ وينهي كويليو روايته أخيرا ، بانتصار إيليا على صراعه الداخلي وعلى قوى اليأس والشكوك ، ويتأكد مباركة الله له ـ صـ 229 ـ ليكلفه بالمهمة التي طالما أرادها وتمناها :
(( كان كلام الربإلى إيليا في السنة الثالثة ، هو :
"امض وتراء لأحاب فأتي بمطرعلى وجه الأرض" ))
..............................
هامش :
ـ يعتمد باولو كويليو على مرجعية دينية يستند عليها وتظهر في إلقائه للقارئ بعض أيات من التوراة والإنجيل طوال صفحات رواياته .
ـ يركز كويليو دائما على الصراعات النفسية التي تحدث داخل الإنسان الباحث عن هوية حقيقية في عالمه ، ذلك الإنسان المحاط بصعوبات وإضطرابات تحدث نتيجة الإرادة السلبية فيه ، أو نتيجة ما يحايط به من شخوص وأشياء وأحداث وقوى خارجية .
ـ دائما ما يسري في أبطاله الموجودين داخل رواياته أسرارا مكتومة وأنوارا مختفية داخل أنفسهم ، لا تظهر إلا إذا تنبه لها بطل الرواية وبحث عنها ، حتى عندما استخدم البطل " النبي " والذي ينبغي أن يكون مؤيدا من قبل الرب بمعجزات تيسر له العصيب من الأمور ، وتذلل له الصعاب ، كان هناك طوال الوقت مواقفا ينبغي فيها على النبي أن يستخدم بشريته وأفكاره وعقله دون مساعدة المدد المرسل من الرب المتمثل في صورة الملاك .
ـ يعتمد كويليو في أغلب رواياته التي قرأتها (*)على ذكر بعض أبطاله الموجودين في روايات أخرى له ، وكأنه يريد أن يكون لقارئه الخاص به خلفية لا تكتمل إلا بقراءة باقي الروايات الأخرى ، ليرسم صورة كلية غير الصورة الجزئية المكتملة في مخيلة القارئ العادي الذي لم يقرأ باقي رواياته ، ويجدر الإشارة أن اعتماده على ذكر أجزاء أو أبطال من روايات أخرى له في خضم الأحداث الموجودة بإحدى الروايات لم تخل بالمحتوى العام لها وكذلك لم يخل بالاحداث إن استقطعنا هذا الجزء المرجعي المأخوذ من إحدى رواياته .
ـ على الأغلب فإن الهدف الذي يبعثه كويليو في نفوس قارئيه عبر رواياته هو هدف مكرر ورسالة معلومة للجميع من قبل ، إلا أن هذا لم ينزع من رواياته جميعا الروح التي تبقيك مندهشا ومتتبعا ومشتاقا لمعرفة مجرى الأحداث والتفاصيل من البداية للنهاية .
ثانيا : لماذا اخترت الحديث عن رواية الجبل الخامس (**) دون باقي الروايات الأخرى ؟
على الرغم من إعجابي بكتابات باولو كويليو الروائية جميعها ، إلا أن أشد ما أثار إعجابي برواية الجبل الخامس هو اختيار كويليو لبطل الرواية تحديدا ، حيث تناول كويليو الجزء البشري الخالص للنبي (إيليا) بصورة عميقة جدا فسرت لدي بعض الأمور التي تغيب عنا في واقعنا الحاضر من حيث مفهوم النبي ، خاصة من الناحية ووجهة النظر الدينية البحتة ، التي تنظر للأنبياء جميعا بشيء عظيم من الوقار والعلو مما يمتنع معه البحث في تفصيلات حياتهم بشكل يؤهلك لاستخلاص نتائج منطقية تجدي للتطبيق على أرض الواقع الإجتماعي المحيط .
وبناء عليه فإن ما أثاره كويليو من وجود الصراع الربوبي البشري والمكرر دائما طوال أحداث الرواية ، بالإضافة إلى استنتاجات كويليو للحوار الدائر بشكل عفوي جدا بين النبي ونفسه حينما جاءه خبر السماء بأن الرب سوف يتركه ليعالج الأمور وحده وليستخدم عقله وفكره دون أن يكون له الحق في استخدام أو استدعاء المعجزات والمساندات الإلهية .
هذا الصراع الوارد في العهدين القديم والجديد (الإنجيل والتوراة) بين الرب وأنبيائه والذي كنت أنظر نحوه بريبة قبل قرائتي لهذه الرواية ـ الجبل الخامس ـ وكان دائما ما يعتريني السؤال : كيف يجوز للبشر حتى وإن كان نبيا مرسلا أن يصارع الرب ؟ وكيف ينطق الكتاب المنزل من عند الله بصراعاته التي حدثت مع البشر ولقى هزيمته فيها ؟! وكيف يهزم ـ أو كما جاء بالنص ـ يصرع المخلوق خالقه ؟!
واستخلصت من اسئلتي إجابة منطقية جدا ، أن التوراة والإنجيل قد تناولهما التحريف والتبديل من قبل الكهان والرهبان ، وقد يكون هذا الصراع المذكور بالأيات من ضمن ما أتت عليه يد التحريف .
إلا أنني عندما انتهيت من قراءة "الجبل الخامس" كان قد اتضح لي صورة تفسيرية لهذا الصراع النفسي الموجود داخل أيليا النبي ، وظهرت لي من مجرى الأحداث حقيقة الأمور كما رأها كويليو ، أو كما فسرها وفق خطوط روايته ، وكما تقبلتها أنا كقارئ يبحث عن التفسيرات ولا يبحث عن الإدانة والاتهامات .
ثالثا : مقتطفات من الرواية :
@ في بداية الرواية ـ صـ 19 ، 20 ـ يتناول كويليو حوارا بين إيليا واللاوي بين أسئلة على لسان الأول وإجابات مفسرة على لسان الأخير ، ليحقق في جزء إيماني مهم ، وهو الإيمان بالمقدرات وبإرادة الله :
(1)
(( إيليا : لقد خدمت ربا يسلمني الأن إلى أعدائي .
أجابه اللاوي : الرب هو الرب . لم يخاطب موسى ليقول له ما إذا كان خيرا أو شريرا ـ قال له فقط : إنه هو الكائن ، إنه كل ما هو موجود تحت الشمس ، إنه الرعد الذي يدمر البيت ، ويد الأنسان التي تعيد بناءه . ))
(2)
(( إيليا : من يكون الرب ؟ أهو من يمسك سيف الجندي الذي يفتك بمن بقى وفيا لإيمان أبائنا ؟ أهو الذي مسح أميرة على عرش بلادنا لتنزل كل هذه المصائب بجيلنا ؟ أهو الرب الذي يقتل المؤمنين والأبرياء أتباع شريعة موسى ؟!
اللاوي : اسأل الرب من يكون ، ما دمت تشكك في قراراته . أما أنا فقد قبلت بقدري .
إيليا بإصرار : لا يمكن للرب أن يرغب في أن يفتك بنا دون رحمة )) .
@ وبعد هذا الحوار بصفحات قليلة ـ صـ 39 ـ يطرح رؤية أخرى لمن يرون الدنيا سواداً وهلاكاً فقط :
(( سأل إيليا نفسه : أو أتذكر المرأة التي كانت تصنع الخبز ؟ كان إيليا يذكرها ، جاءت إليه تسأله أن يصنع لها بعض الأطباق الخشبية . وفيما كان ينجزها ، سمعها تقول إن الرب يتجلى في عمله .
وأضافت المرأة قائلة : يكفي أن نراقب الطريقة التي نصنع بها هذا الأطباق حتى نشعر بإحساس الخالق . فأنت تبتسم وأنت تعمل .
كانت المرأة تصنف البشر فئتين : السعداء في عملهم والمتذمرين فيه ، ويؤكد المتذمرون اللعنة التي أنزلها الله بأدم حين قال له : ملعونة الأرض بسببك ، بمشقة تأكل منها طوال أيام حياتك ، ويرون فيها الحقيقة الوحيدة . هؤلاء لا يجدون لذة في عملهم ، ويسأمون أيام الأعياد ، حين يضطرون للاستراحة . ثم إنهم يستخدمون كلام الرب ذريعة لحياتهم المجدبة متجاهلين أن الرب قال أيضا لموسى : الرب إلهك يباركك على الأرض ويعطيها لك ميراثا لتملكها )) .
@ وبعدها أيضا ـ صـ 68 ـ يطرح للقارئ ما حدث من معجزة إحياء الموتى التي ظهرت على يد إيليا والتي بدلا من أن تبعث في الناس حس الإيمان بوجود إله إيليا ، إلا أنها دعمت في قلوبهم إصرارا على الإيمان ببعل ورفقته ـ ألهة الجبل الخامس ـ ، ليجد إيليا نفسه محاورا ملاكه الحارس بمنتهى العجب والاستغراب من فعل الناس ، ملتبسا عليه الشك في قدرة نفسه على بعث الإيمان في قلوب البشر :
(( عندئذ ، سمع صوت ملاكه الحارس الذي يتحاور معه منذ الطفولة .
قال الملاك لإيليا : قابلتْ اليوم ملاك الرب .
أجاب إيليا : أجل ، لكن ملائكة الرب لا تتحدث إلى البشر ، بل تكتفي بنقل أوامر الله .
أمره الملك لحارس قائلا : استعن بقدرتك .
لم يفهم إيليا ما قاله .
ـ كل ما أملكه من قدرة أت من الرب .
ـ الجميع يملكون قدرة الرب ، لكن أحدا لا يستعين بها ))
@ ثم يرسل كويليو رسالة على لسان النبي إيليا للذين فقدوا معنى الحياة ـ صـ 69 ـ :
(( بعد ظهيرة أحد الأيام ، رجع إلى المنزل قبل الموعد المعتاد ، فوجد الأرملة جالسة على العتبة .
ـ ماذا تفعلين ؟ ـ لا شيء لديَّ لأفعله .
ـ إذا اعلمي أن في هذه اللحظة أناسا كثيرين يزهدون في الدنيا ، أناسا لا يسأمون ولا يبكون ، بل يكتفون بأن يدعوا الوقت ينقضي . هؤلاء لم يواجهوا تحديات الحياة ، وهي لم تعد تتحداهم . أنت تمرين بالوضع نفسه . تحركي ، واجهي الحياة ، ولا تستسلمي أبدا .
قالت وهي تخفض نظراتها :
ـ مذ حللت بيننا اكتسبت حياتي معنى جديدا ))
@ ثم ينتقل كويليو ـ صـ 111 ـ لإبراز الصراع الدائم بين الحرب والسلام أو بين الخير والشر ، بين من يلبسون وجه الدين ويتزيون بزيه وليس هم إلا أسلحة للشيطان الذي يكتسب قوته من وجودهم في مناصبهم الدينية ، يوضح أيضا إنجذاب العامة وتعلقهم بهم لأنهم ـ أي أولئك المتدينين الزائفين ـ ينطقون باسم الدين ، حتى وإن كانوا في ذلك العصر ينتمون لألهة الجبل الخامس وهي ألهة ضلال إلا أنهم موجودون في عصرنا بشكل واضح ولكن مع الاختلاف فهم في حاضرنا ينطقون باسم الله الواحد ، إلا أنهم على نفس منهاج سابقيهم :
(( انقسم الجمهور إلى فئتين : فئة تدافع عن السلام ، وفئة تطالب بأن تقاوم أكبر (***) .
قال الحاكم للكاهن بصوت منخفض : ـ هذا الرجل تحداني علنا ، لكن أنا أيضا فعلت ذلك .
التفت الكاهن ناحيته ، وتكلم بصوت خافت حتى لا يسمعه أحد ، آمرا الحاكم بأن يقتل الأشوري فورا :
ـ لا أطلب منك بل آمرك بذلك . أنا من يمسك بزمام السلطة ، وأستطيع إنهاء هذا الوضع ساعة أشاء ، هلا فهمت ؟ هناك قرابين أخرى يمكن تقديمها إلى الألهة ، وهي قادرة على تهدئة غضبها ، حين نضطر إلى تغيير العائلة الحاكمة . ولن تكون المرة الأولى التي تتغير فيها العائلة الحاكمة . ففي مصر ، وهي إمبراطورية يرقى عهدها إلى آلاف السنين ، جرى استبدال الكثير من السلالات الحاكمة . ومع ذلك ، ظل الكون منتظما ، ولم تسقط السماء فوق رؤوسنا .
علا وجه الحاكم شحوب ملحوظ .
ـ القائد موجود وسط الجمهور برفقة قسم من جنوده . إذا بقيت مصرا على التفاوض مع هذا الرجل ، فسأبلغ الجميع أن الألهة تخلت عنك ، وستتنحى عن العرش . لذا تابع المحاكمة ، وافعل بالضبط ما طلبته منك . ))
@ ثم يعود كويليو ـ صـ 117 ، 118 ـ ليناقش ما يدور في صدر النبي إيليا بعدما حدث أمام عينيه من موت رجل لم يستطع التدخل لإنقاذه ، ودارت في نفسه الشكوك مرة أخرى ، عن جدوى النبوة والرسالة التي بعث بها ، عن عجزه إيقاف الشر الذي يراه يسيطر ويكبر يوما بعد الأخر :
(1)
(( لم يرجع إيليا إلى الأرملة في ذلك اليوم ، بل سار على غير هدى في الصحراء .
قال للنباتات والصخور :
ـ لم يفعل الرب شيئا ، في حين أنه كان قادرا على التدخل .
كان نادما على قراره . واعتبر نفسه مرة أخرى مسئولا عن موت أحد الرجال . ))
(2)
(( شعر إيليا في هذه اللحظة ، التي كان يتجول خلالها في الوادي ، بالرغبة في أن يكون شخصا للأخرين ، لم يستمع قط إلى صوت الرب ، ولا إلى ملائكته .
لكن الحياة ليست سلسلة من الرغبات ، بل هي تحقيق أفعال كل شخص . تذكر إيليا أنه حاول عدة مرات أن يتخلى عن مهمته ، ومع ذلك فهو هنا في هذا الوادي لأن الرب طلب منه ذلك .
ـ " يا رب ، كان في استطاعتي أن أكون نجارا وأخدم مشاريعك " ))
(3)
(( قال إيليا : لم يعد لدي شيء أفعله هنا ، فمتى أعود إلى إسرائيل ؟
أجاب الملاك : حين تتعلم كيف تبني من جديد . تذكر ما قاله الرب لموسى قبل القتال . واستفد من كل لحظة ، إن كنت لا تريد الندم فيما بعد ، والتأسف على شبابك الذي ضاع سدى . فالرب يجعل لكل عمر همومه الخاصة به . ))
@ ويضع كويليو لنا ـ صـ 181 ، 182 ـ حكمة لمن تملكه اليأس من الحياة والمقدرات ومن فقد الدليل والإرادة لما واجهه من الصعاب ، حيث يقابل إيليا الراعي الذي يعلمه ذلك :
(( فأردف الراعي :
ليس صعبا إعادة خلق الحياة ، كما ليس مستحيلا إعادة إنهاض أكبر من بين أنقاضها . ويكفي لذلك أن ندرك أن لدينا القوة نفسها التي كنا نملكها في السابق ، وأ ن نستغلها لصالحنا .
نظر الرجل إلى إيليا مباشرة ، وقال :
إذا كان لديك ماضٍ ولم تكن راضيا عنه ، إنسه الأن . تخيل قصة جديدة لحياتك وأمن بها . أحصر اهتمامك فقط باللحظات التي وفقت فيها للحصول على ما تشتهيه . وهذه القوة تساعدك على نيل ما تريد ))
@ ويظل كويليو يرسم تصاعد الصراع ـ صـ 185،186 ـ واستمرار الشكوك واليأس في قلب إيليا حتى يرينا عبر حوار النبي مع رفيقه الصبي أو مع نفسه ذاك اليأس المحيط به من وجود قدرته كنبي ، ومن توفيق الله له ، لأن الله تركه يواجه الحرب والخراب وحده دون أن يسانده ، وتخلى عنه في وقت محنته :
(1)
(( قال الصبي : الرب الذي أعادني من الموت لا يزال حيا ، ويستطيع أن يعيد أمي إلى الحياة ، إذا أعدت المدينة إلى الحياة .
ـ إنس هذا الإله . إنه بعيد ، وهو لا يحقق المعجزات التي نتوقعها منه ))
(2)
(( قال إيليا متكلما لغة بلاده كي لا يفهم الطفل معنى كلامه :
ـ لديك كل قوة العالم والنجوم . تستطيع هدم مدينة وبلاد ، كما تسحق حشرة . أنزل إذا نار السموات ، وضع حدا لأيامي الأن وإلا عملت ضد إرادتك )) .
@ وحين يقترب كويليو من نهاية روايته ـ صـ 205 ـ يكون قد أظهر لنا حقيقة الصراع بين إيليا وربه مسترجعا صراع يعقوب أو إسرائيل المذكور بالكتاب المقدس ليعطينا الدرس من وجود هذا الصراع الحتمي لوجود قوة البشر على معالجة المشكلات وإيجاد الحلول لتكون أخيرا هي مشيئة الرب :
(( نهض إيليا وصلى قائلا :
"صارعتك يا رب ولست بخجل لاكتشافي أنني أمشي في طريقي التي اخترتها ، لا لأن هذه الطريق فرضهاعلي أهلي أو تقاليد بلادي أو أنت نفسك .
إليك يا رب أتوق إلى العودة الأن . وأريد أن أعطيك كل ما في إرادتي من قوة . وليس جبانا ذلك الذي لم يكن قادرا على سلوك طريق مختلف . لكن ، لكي تعهد إلي بمهمتك الجليلة ، عليّ أن أواصل هذه المعركة ضدك ، وأصارعك حتى تباركني ".
كانت إعادة بناء أكبر هي التحدي الذي ارتضى إيليا أن يواجه الله به ، وهي أيضا اللقاء المستعاد بالله ))
@ صـ 212 :
(( وسأحاربك حتى تباركني وتبارك ثمار عملي . ذات يوم ستستجب لي . ))
@ وينهي كويليو روايته أخيرا ، بانتصار إيليا على صراعه الداخلي وعلى قوى اليأس والشكوك ، ويتأكد مباركة الله له ـ صـ 229 ـ ليكلفه بالمهمة التي طالما أرادها وتمناها :
(( كان كلام الربإلى إيليا في السنة الثالثة ، هو :
"امض وتراء لأحاب فأتي بمطرعلى وجه الأرض" ))
..............................
هامش :
(*) الخيميائي ، الشيطان والأنسة بريم ، أحد عشر دقيقة ، ساحرة بورتوبيلا
(**) الطبعة الثانية 2003 ـ شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ـ ترجمة: ماريا طوق ، تدقيق لغوي : روحي طعمة
(***) أكبر : إحدى مدن الشام المذكورة بالرواية التي وقعت بها أغلب أحداثها
(**) الطبعة الثانية 2003 ـ شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ـ ترجمة: ماريا طوق ، تدقيق لغوي : روحي طعمة
(***) أكبر : إحدى مدن الشام المذكورة بالرواية التي وقعت بها أغلب أحداثها