لَئِنْ
بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ
لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ *[1]
في المرة الأولى
التي أراد الله للإنسان أن يقتل أخيه الإنسان، لم يكن هناك شاهد على القتل غير
الغراب، رأي الغراب الجريمة الكاملة وتستر على القاتل، لم ينطق، لم يخبر قلة الناس
التي كانت على وجه الأرض ساعتها، وبالغ في جريمة إخفاء الحقيقة بأن علّم القاتل كيف يدفن جثة قتيله.
أراد الغراب أن
يكون عونا، كان بإمكانه أن يصيح وينعق ليخبر القاضي، لكنه كان يعلم أنه ليس هناك
قاض على الأرض، واكتفى بقاضي السماء، الذي سمع ورأى وأشاء وأراد، وله الأمر في
الثواب والعقاب والحساب.
يروي التاريخ أن
قابيل قتل هابيل من أجل الدنيا، لم يستطع أن يتحمل وجود شخص محتمل أن ينازعه
مستقبلا فيما اعتبره أنه من حقه وحده، وسكت التاريخ عن محاكمة قابيل، لم يخبرنا
كيف نجا بفعلته، كيف سكت سكان الأرض وقتها على القتل.
كيف رضوا أن يضيع
دم هابيل هباء، كان يمكنهم أن يعقدوا محاكمة صورية مثل ما يعقد هذه الأيام للقتلة
والمجرمين، أن يوقوعوا حكما مع إيقاف التنفيذ، أو أن يتم نقض الحكم وتعاد المحاكمة
ويحصل هابيل على البراءة من دم أخيه.
أظن أن هذه الألاعيب
لم يكونوا قد فطنوا إليها بعد، فقد كان العصر بدائيا، بما يسمح بألا يتم مثل ذلك،
أو أن الأمر كان أكبر من أن يكون هناك عقاب يكفيه، فكيف يقتل المرء أخيه؟
ولكن يكفيني أنهم
لم يزيفوا هذه الحقيقة بدليل أنها قد وصلت إلينا كاملة بغير نقصان أو تحريف، فقد
عرفنا من القاتل، ومن المقتول، ومن الشاهد الساكت عن قول الحقيقة، أما اليوم فكل
وقائع قتل قابيل لهابيل التي تحدث أمامنا علانية ننكرها، كلنا شهود عيان للحقيقة،
كلنا قد سمعنا ورأينا أكثر من حادثة قتل ارتكبتها سلطة موكلة منا ومفوضة منا
بالقتل.
يقول إيليا أبو
ماضي[2]:
لَمّا سَأَلتُ عَنِ الحَقيقَةِ قيلَ لي ** الحَقُّ ما اِتَّفَقَ
السَوادُ عَلَيه
ِفَعَجِبتُ كَيفَ ذَبَحتُ ثَورِيَ في الضُحى ** وَالهِندُ ساجِدَةٌ
هُناكَ لَدَيهِ
نَرضى بِحُكمِ الأَكثَرِيَّةِ مِثلَما ** يَرضى الوَليدُ الظُلمَ مِن
أَبَوَيهِ
إِمّا لِغُنمٍ يَرتَجيهِ مِنهُما ** أَو خِفيَةً مِن أَن يُساءَ
إِلَيهِ
إذن كلنا على علم
بالحقيقة المرة، كلنا شهود، لكن هناك من لا يستطيع أن ينطق هذه الشهادة، هناك كثير
منا يكتمونها، كالغراب، ونستحث القاتل ونعلمه كيف يدفن أدوات جريمته، بل نستزيد في
ذلك ونوافق على روايته بأن من قتل هابيل هو الطرف الثالث.
تخيل معي لو جاءتك
من التاريخ واقعة قتل قابيل دون أن تعرف القاتل، أو أن تحقيقات نيابة "أدم"
العامة قد أصدرت أمرا بألا وجه لإقامة الدعوى أو قيدت الدعوى الجنائية ضد مجهول.
ألم يكن من الأجدى
ساعتها أن نتسائل لماذا لم يحاكم الغراب على كتمانه الشهادة؟
تخيل معي ثانية أن
الغراب قد توجه إلى نيابة "أدم" العامة وقرر أمامها أن قابيل هو القاتل
وأنه قد ساعده على دفن جثة هابيل، وبعدها أحالت النيابة الدعوى إلى المحكمة بتهمة
القتل الخطأ، ألم يكن ساعتها سيتبادر إلى أذهاننا سؤال: لماذا لم يحاكم الغراب على
مساعدته هابيل في إخفاء أثار جريمته؟
حسب تقرير[3] هيومن
رايتس ووتش تقول: (استمرت الشرطة في استخدام التعذيب بأقسام الشرطة وعند القبض
على الأفراد، وأغلب أعمال التعذيب تحدث أثناء التحقيقات في الجرائم الجنائية
العادية، وأيضاً في بعض القضايا السياسية، مثل تعذيب المتظاهرين الذين تم القبض
عليهم في القاهرة في أغسطس/آب ونوفمبر/تشرين الثاني. أدى تعذيب الشرطة إلى ما لا
يقل عن 11 وفاة أثناء الاحتجاز. كما استمرت الشرطة في استخدام القوة المفرطة –
والمميتة في بعض الأحيان – أثناء محاولة السيطرة على المظاهرات وفي أثناء العمل
الشرطي العادي. كما شهد العام أعمال تعذيب على يد الجيش أيضا. في مايو/أيار قبض
ضباط الجيش على 350 متظاهراً على الأقل، بينهم 16 سيدة، بعد مظاهرة في مكان قريب
من وزارة الدفاع في القاهرة، اتخذت طابع العنف بعد أن بدأت. أدلى أولئك الذين تم
الإفراج عنهم في الأيام التالية بشهادات متسقة عن التعذيب والضرب أثناء القبض
عليهم وعندما كانوا رهن الاحتجاز).
في الواقعة
الأخيرة بشارع طلعت حرب، والتي حدث فيها أن سقطت الشهيدة شيماء الصباغ قتيلة بعد
إصابتها بطلقات خرطوش، دار الحوار بين الناس على وجهين، الأول: متسائلا بحسن نية من
القاتل؟ والثاني: قد أفضى إلى نتيجة محسومة القاتل هم الطرف الثالث، قاصدا جماعة
الإخوان الذين قد ألحق بهم أخيرا لفظة "الإرهابيين".
على الرغم من أن
التساؤلين بالنسبة لي قتل جديد للضحية التي ذهبت إلى خالقها وارتاحت من تساؤلات
الناس المريضة، الذين لا يريدون أن يشاهدوا الحقيقة المطروحة أمامهم في الفيديوهات
وشهادات الشهود في مواقع التواصل، إلا أن هذه التساؤلات أيضا تفضي إلى موت ضحية
جديدة وتبرير جيد للإفلات من العقاب.
أنا لا استكثر على
الناس تساؤلاتهم، بل أستجديهم ان يفتحوا بصيرتهم ليروا الحقيقة التي أمامهم، الحقيقة
التي عشناها مرارا وتكرارا .. الحقيقة هي أن الغراب اللعين هو القاتل!
نعم الغراب الذي
وقف بجانب القاتل وتركه ليتم جريمته، وبعد ذلك علمه كيف يواري جثة أخيه، ويخفي
المعلومات، ويضلل النيابة العامة والمحكمة، بل هو الأن قد علم وزارة الداخلية كيف
تصدر بيانا وتعقد مؤتمرا صحفيا لكي تقول فيه: أن الطرف الثالث أو الإخوان
الإرهابيين هم القتلة، وأن العمل يجري على قدم وساق للقبض على القاتل وتقديمه
للمحاكمة.
في قضية قناص
العيون[4] التي كنت أحضر عن أحد المدعين بالحق المدني فيها، وتحديدا بجلسة 12 يونيو
2012 جاءت شهادة الدكتور حمدى مصطفى عبد الرحمن، خبير الطب الشرعي أمام المحكمة،
وهو الذى عُهد إليه فحص الأسلحة المحرزة من الشرطة بالأتي: (أن الأسلحة المحرزة
هى بنادق خرطوش عيار 12 مركب على كل منها كأس دائرى لاطلاق قنابل الغاز، وان جميع
تلك البنادق صناعة امريكية، وأنها صالحة للاستخدام وسبق استعمالها. وشدد على ان
المصوب يستطيع التصويب فى اتجاه معين داخل نطاق مسافة الاطلاق لكن إصابة هدف بعينه
مستحيل خاصة باستخدام طلقات الخرطوش.
إن المقذوفات التى
تطلق من مثل هذا النوع من البنادق تحدث الوفاة فى حالة الإطلاق القريب بالخرطوش وإصابتها
لمناطق مهمة من الجسم كالرأس أوالصدر أو البطن أما بعد انتشار المقذوفات الرشية
فيتوقف حدوث الوفاة على مدى الانتشار ومدى إصابته واختراقه لجزء مهم من الجسم من
عدمه..
كما أن الآثار
الناتجة عن اختراق تلك المقذوفات للأحشاء الداخلية للجسم وتلك المسافة تختلف من سلاح
لآخر على حسب قوة السلاح نفسه ومدى إحكام غرفة الغاز به، ومن 3 متر الأولى اذا
اصابت الطلقة الجسم تكون قاتلة ومن 3 الى 10 امتار حيث تكون الاصابات تكون خطيرة
وقد تحدث الوفاة اذا كانت بمناطق حساسة بالجسم اما بعد 10 امتار تكون المقذوفات
المنتشرة قليلة القدرة على اختراق الجسم البشري واحداث اصابات جسيمة داخلة).
إذن يا سادة، يا
من تريدون الحقيقة والحق، يا من تتساءلون بجدية وبحماس، يا من تبحثون !!
حاكموا الغراب
الذي يرتدي زيا أسودا ويمسك في يديه بندقية خرطوش هي ذاتها نفس البندقية التي يطلق
منها قنابل الغاز، نعم هي نفس البندقية، فقط ما على الغراب سوى أن يفك كأس الإطلاق الذي يوضع على فوهة
البندقية، ليحمل قنبلة الغاز، ويبدل الطلقات الدافعة بطلقات خرطوش قاتلة ومميتة من
على بعد أمتار بسيطة.
حاكموا الغراب
الذي ساعد وسهل جريمة القتل وسكت عن تقديم أخيه الغراب "الملثم" للتحقيق والمحاكمة.
حاكموا هذا الغراب
الذي إن لم يقتل الناس بالتعذيب في أماكن الإحتجاز، سيقتلهم عن عمد في الشوارع
والميادين والبيوت.
---------------------------------
[1] القرآن الكريم : {آية: 28، سورة: المائدة}
[2] إيليا أبي ماضي. من كبار شعراء المهجر. ومن أعضاء (الرابطة القلمية) فيه. ولد في قرية (المحيدثة) بلبنان. وسكن الإسكندرية (سنة 1900م)
[3] هيومن رايتس ووتش التقرير العالمي 2013: مصر: تعذيب وانتهاكات الشرطة والجيش http://goo.gl/O3DVVq
[4] محمود صبحي الشناوي ضابط أمن مركزي مصري بعد ظهوره في مقطع فيديو صوّر لأحداث شارع محمد محمود مصوبا ببندقية باتجاه المتظاهرين تم اتهامه بالقتل والشروع في قتل بالقضية رقم 9793 لسنة 2011 جنح قصر النيل والمقيدة برقم 4187 جنايات جنوب القاهرة، حكم عليه بالسجن 3 سنوات في مارس 2013 بعد تداول نظر الدعوى لمدة عام كامل أمام القضاء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق