- ـ جدي لأبي :
- لا أتذكر منه غير أنه كان نورا ، كان سكينة ورحمة ، كنت أحبه كثيرا جدا ، أكثر من علقت روحي معه في غير وجوده ، رحل عنا وأنا في سن صغيرة ، لكنني كنت أراه دائما بداخلي ، وارتبطت به إرتباط الفرع بالأصل .
- أصحو مبكرا لأذهب للمدرسة ، لم أبلغ الخامسة بعد من عمري ، أغسل وجهي وأرتدي ملابسي ، ألتقط حقيبتي الحمراء الصغيرة وأتوجه على الفور لغرفته ، ألقي عليه تحية الصباح فيعطيني خمسة قروش ـ شلن ـ ، يا لفرحة قلبي .. (( معايا شلن ، هعمل كل اللي نفسي فيه )) أقبل يده البيضاء ، وأحتضنه .. وأجري منطلقا كعصفور يتعلم مبادئ الطيران .
- يدخل عمي الأصغر من بوابة البيت الحديدية حاملا حقيبة سفره ، وأنا أقف وسط أناس كثيرين لا أدرك أسمائهم ولا أشكالهم ، يرتمي هو في أول حضن يقابله ، يبكي وبحرقة ، أسمع جيدا نحيبه فأبكي لأني أحب عمي ، أسمع الأصوات التي تدل على الفقد والضياع ، يسكت أبي كل الأصوات يزجر كل من جاء بصوت من النار ، أين جدي؟! أين الخمسة قروش ؟ أين أنا ؟!ـ
- بعد عشرين عاما فوق الخمسة التي مضت .. أفتح جهاز الكومبيوتر وأضع اسطوانة ميديا وأشغل الملف الموجود بها على برنامج ميديا بلاير ، أرى جدي يتوسط الناس الذين يشكلون جمعا غفيرا .. تظهر الصورة وهم يتزاحمون عليه .. يحاولون التقرب منه .. يتلمسون أطراف حديثه العذب .. وبسمته المؤمنة بأن الحياة روح جميلة وقلب مطمئن .
- يسأله احد تلاميذه : (( عمي . أخبرنا عن الحلال والحرام ))، يرد عليه بعد سكوت واثق : (( الحلال بين والحرام بين )).ـ
- يخبرني أبي أن شجرة التوت التي قطعناها اليوم لتوغل جذورها تحت أرض البيت ، كانت نبتة من زرع يد جدي ، رأيتها وهي تبكي ، رأيت هذه الشجرة وهم يزيلون أثارها .. وهي الأن تبكي !!ـ
- ـ جدي لأمي :
- بُعد موطن إقامتنا عن محل إقامة أسرة أمي كان سببا رئيسيا في عدم الأرتباط بالأحداث التي كانت تقع بعيدا عنا هناك ، إلا أن الصلة التي حافظت على وجودها أمي وساعدها في ذلك أبي كانت لها السبب في وجود وصلات شعورية تغني في ظل بُعد المسافات.
- نذهب لنتحسس بعض الروائح ذات الصلة ، والعواطف التي لن يقدمها أخر غير من لهم المكان والمكانة هناك .ـ
- كان جدي رجل تجارة ماهر بذل أمواله من أجل تعليم أمي وإخوتها ، احتفظ أمامي بشكل واحد لا يتغير ، معالم ثابتة التشكيل ، وجه مرسوم بدقة النحاتين ، نظارته العريضة التي يحافظ على وجودها أمام عينية .
- أدخل أنا وأخوتي حانوته الضيق ، أتقدم للسلام عليه مقبلا يديه فيبتسم ابتسامة المحب ، لكن ما تلبث قسماته في الرجوع لشكلها الأصلي الذي ليس جديدا علي .
- نتجمع كلنا أمام التلفاز نحكي ونستمتع ، نلقي النكات ، نتبادل التعليق على أحداث الكون التليفزيوني الظاهر عبر برامجه ومسلسلاته ، يمر جدي بسرعة أمامنا ، وبحركة أسرع يفصل الكهرباء عن التلفاز ، ثم يكمل مروره حيثما أراد .
- أثور وأخوتي غاضبين ، فتقوم أمي لتعيد للتلفاز صوته وصورته التي إنقطع استرسالهما منذ لحظات ، تمر الدقائق السريعة ، ويمر جدي من جديد عائدا أمام التلفاز ليكرر فعلته القديمة ، هذه المرة لا تحدث ثورة ولا غضب .. أقوم أنا في غمرة الضحك الهيستيري لأعيد توصيل الكهرباء مجددا ، رغم أننا لم نكن في حاجة أبدا لمشاهدة التلفاز .
- نفس المشهد المكرر ، الوقوف في لحظة الوداع والبكاء ، رسمة الحزن الطوافة على جميع الوجوه ، التعازي الحارة التي لا تسمن أو تغني من جوع ، الكراسي المتراصة جنبا إلا جنب ، القارئ الشيخ ، الميكروفونات والسماعات الكبيرة ، طابور المعزين ، تكل يدي من كثرة السلام والتصافح ، لم يكن يهمني ساعتها غير النجاح في إمتحاناتي المدرسية .
- ـ جدي ( عم أبي ) :
- حسن ـ وهو فعلا حسن ، كل زياراته القليلة التي جاء فيها لبيتنا كنت حريصا على وجودي أثنائها .
- توقظني أمي مبكرا ، تأمرني أن أذهب لبيت جدي فلان لأحضر اللبن كي تعد فطور جدي فهو ضيفنا جاء من مصر السفلى ، أذهب دون لكاعة ، أركب دراجتي سعيدا ، أحمل بيدي اليمنى ( شفشق اللبن ) ، ماسكا بيدي الأخرى مقبض الدراجة ، يد فرامل الدراجة من الناحية اليمنى لكنني لأ أستطيع مهما حاولت أن احمل هذا ( الشفشق الممتلئ باللبن ) بيسراي ، هي أضعف من ذلك بكثير .
- أتوكل على الله .. أسير في طريق العودة للمنزل ، أسير بهدوء .. قطعت هكذا نصف المسافة ، لم يتبق غير بعض الامتار ، بضع لفات صغيرات من عجلات دراجتي ، تبديلتين وأتركها بعدها تسير وحدها ، دراجتي تعرف جيدا طريقها .
- هذه أول تبديلة بقدمي ، وهذه الأخيرة . يفاجأني مطب على جسر الطريق بالقرب من بيتنا ، كنت أنا من شرعت في إعداده البارحة وتركت أصدقائي ليكملوه .
- ترتفع الدراجة لأعلى ، يرتفع معها جسدي ، ترتفع يدي أكثر وأكثر ، (شفشق اللبن ) يتجه بيدي ناحية الغرب ، عجلة الدراجة الأمامية تتجه للشرق عن تعمد ، وأنا أنكب على وجهي في المنتصف (( لا حصلت شرق ولا غرب )) .. (( يا سلام طعم التراب باللبن أكيد هيكون فظيع )) قالها رجل رأني وأنا أرقص رقصتي الأخيرة .
- يرقد جدي الأن على فراشه الأبيض بمستشفى كائنة على كورنيش النيل ، يلتف حوله ملائكة الطب ، لا أعرف كيف يكون ملاكا من أمسك مشرطا ليذبح ؟! كيف يكون ملاكا من يسفك الدماء بحجة العلاج وطلب الشفاء ؟!
- (( ورم خبيث )) .. فعلا يالا خبثه .. لم يجد موطنا غير عقله ليكمن فيه ، يقول الطبيب : أن العملية الجراحية التي أجريت من أسابيع قد كتب لها النجاح ، لكننا نسأله : إذا لماذا هذا الإضطراب الذي يعانيه ، يخبرنا الطبيب الملائكي : أنه هو ـ أي جدي ـ لا يريد أن يعيش .
- يمضي النهار .. ويأتي الليل ، تسقط الشمس غرب النيل بكامل إحمرار خديها ، ويسقط في النيل معها كل الهدوء والسكينة ، أسمع النداءات المتتالية منه ، فلا أستطيع فعل شيء ، (( أحمد )) .. أرد عليه : (( نعم )) .. يسألني : (( فين أخوك )) .. أسأله : (( تقصد عمي أحمد )) .. يجيبني بالموافقة .. (( ؟ )) .
- يقول لي : (( عايزك تبقى قوي ؟ زيي وأنا صغير ، مكنش فيه حد بيضربني وكنت بضرب كل الناس )) ، أطمئنه أنني سأكون قويا وأنني سأعفو عن كل الناس .
- (( أقولك نكتة )) يسألني فأوكد له أني مشتاق لسماعها منه .. (( مرة واحد صعيدي جاله ورم في المخ .. ولما عرفوا أهله .. استغربوا .. وقالوا جاله منين المخ ده )) ... لا يضحك .. يسكت .. وأنا بداخلي تموت ثورات البراكين .
- حينما أراد الله له أن يرقد بجوار أخيه ـ جدي لأبي ـ كان كل الناس التي تعرفه فرحى ، ولم نكن أبدا للحزن معطوفين .
- ـ جدتي لأمي :
- (( يابن الصوبية )) تقصد أن تداعبني فتقول لي يا ابن الصبية .. جميلة الخدين والعينين والروح . وعند الكلام عن الروح يكون الحديث للقلوب لا للألسنة .
- أرى حبها الواضح لأبي .. حتى إنها لتناديني يا ابن ابني بدلا من يا ابن بنتي .. فأنا ابن إبنها مع إنها أم أمي .
- كل طاقات الحب البريئة والفل والياسمين وطعم اللوز في داخلها ، كل فراشات الأمل تقبع بجوارها ، كل عصافير الجنة تحت طلبها ، لم أعرف لها ضيقا أو تعاسة ، (( ساعات مش بفهم كلامكوا )) تقصدني أنا وأخوتي ، لكنني على علم من أنها تفهم بقلبها ما لا يفهمه ذوو العقول .
- تأتي كالملكات بين يديها الخير والفرحة ، على الرغم من إعاقتها بشلل نصفي ، إلا أن سعيها إلينا كل فترة كان أسرع من سعي الأصحاء ، أنام إلى جوارها ـ فهي عندما تأتي تحل ضيفة على سريري أنا ـ تحاكيني وتبتسم ، أنام ليلاتي بجوارها ، وفي قلبي أحلام ستتحقق في الصباحات الجميلات الأتية .
- نفس المنظر المكرر ، البناء الصغير ، قماش الشاش الابيض ، الدعاء ، التعازي الحارة ، الدموع ، البكاء .
- أما انا فلم أحس بشيء ، من ساعة سماعي الخبر ، وحتى هذا الموقف لم يعترني إحساس .
- ينصرف الناس ، أنصرف تبعا خلفهم ، أرى خالي الأصغر في حالة ممزقة ، لا يستطيع إمساك نفسه ، يواسيه الناس ، لكن دون جدوى ، فالدمع أهون الأمور حينها .
- مالي أنا .. أمشي مشية بلهاء .. هل جف قلبي عن الشعور ؟! .. أقف وأستدير عائدا ناحية قبرها .. تمر صورها العالقة بذهني مرتبطة بأحداث معينة .. تمر على ذاكرتي مرور شريط أفلام السينما على ألة العرض السينمائي .
- تخرج من صدري زفرات صدئة ، شهقات متتالية ، أنزف دموعا عصت على الخروج للفضاء ، أرق رقة الريشة التي لا تعرف مكانها الأخير رغم تعبها من الدوران والطيران في الهواء .
- هل فعلا سأفقدها للأبد ؟ !
- ـ جدتي لأبي :
- لم يكن يعنيني فيها الحنان أو الرقة ، بل كان ما يلفت انتباهي قوة الشخصية ، سمار اللون الترابي الأصيل ، أكتسبت منها الكثير ليس بإرادتي ، ولكن عبر الجينات والكروموسومات الدقيقة التراكيب .
- في الصغر .. وفي نفس التوقيت الصباحي المعتاد لطفل يبدأ أولى سنواته الدراسية ، وبعد أن أحتفظ في جيبي بالخمسة قروش التي نلتها من جدي ، أجلس بجوارها وهي تضع براد الشاي على الباجور ، بعد أن تنزل البراد الأزرق الذي أعتقد أن لونه كان سببا في حبي للشاي . تأتي بخبز (( البتاو )) وتكسر لي قطعة منه ثم تضعها على النار ، فتتلوى قطعة البتاو لتتخذ شكلا اسطوانيا فريدا ، لتعطيها لي ، فأغمسها داخل كوب الشاي الممتلئ ، ولأعيش لحظات الاستمتاع التي يعيشها الأن مدمني شكولاته (كادبوري) .
- كيف يتأتى لها في هذه السن كل هذه الهمة والنشاط ؟! إنه يا سيدي الضمير ، الذي نفتقده .
- لم يكن يعجبها العجب ، لأن الأفعال التي كنت أنت تراها كاملة ، كانت ترى فيها النقصان الواضح ، كان ينبغي عليك بذل مجهود أكثر .
- وأنا صغير ، وحين تحل ساعة النوم . كنت احب أن أنام في حجرها ، لتمرر يدها الخشنة على ظهري من تحت ملابسي ، ولتغطيني بجلبابها الفوقي ، ولتغني لي : (( هوه هوه هوه هوه ... نام يا حبيبي نااام .. وادبحلك جوزين حماااام .. هووووه هوووه )) .
- لم أرها من أربعة شهور مرت أو تزيد ، لم تنتظرني لأودعها وأقبلها ، لم تنتظر أن أكون بجوارها أو خلفها وهي راحلة ، كانت تعرف أني سأجيء من بعيد يوم الثلاثاء مساءا .. لكنها كانت قد رحلت في مطلع فجر نفس اليوم ..
لحظة الميلاد هي لحظة الإنفصال والابتعاد The whole world must give the moon the chance to show its beauty
الأربعاء، 12 مايو 2010
موال الفراق والحزن
قبعة الساحر ـ حَبُ منثور
- يرى الأمور بعكسها ، يخيل إليه أنه مشوش الذهن ، يجري خلف يمامته ليعطيها بعض الحَب .ـ
- تتدلل يمامته عليه ، تعرف أنه سيجري وراءها لأنه لا يستطيع أن يستغني عنها ، تزيد في تدللها فتطيـــر عاليا ، وتغيب إلى الأبد عن ناظريه .ـ
- ((يوم قولت اااااااااااااااه ، سمعونى قالوا: فسد ، ده كان جدع، رديت على اللايمين انا وقولت : اااااااااااااااااااه أه لو تعرفوا معنى زئير الاسد))**
- ما زال واقفا على سطح بيته ، يشاهد انحناءات الجدران والبشر ، يتمنى عودة يمامته ، يقبض بيده على بعض الحَب ، ينثرها على رؤوس المارين في الشارع تحته ، ويجلس خلف سور السطح ليتخفى عمن استرقوا النظر لإعلى لكي يشاهدوا عبثه .ـ
- تمتعه اللعبة وتأخذ منه القلق على ضياع طائره .ـ
- (( لا تجبـر الإنسـان ولا تخـيره يكفيه ما فيه مـن عقـل بيحيـره اللـى النهـارده بيطلبه ويشـتهيه هو اللى بكـره ح يشـتهى يغيره !! ))**
- ما زال ينثر الحَب فوق الرؤوس ، فوق المشاعر الكئيبة ، فوق جبال الملل . ما زال يرتدي ثوب تفاهته عله يرجع إلى موطنه الأصلي كعصفور من عصافير الجنة .ـ
- (( خرج ابن آدم من العدم قلت : ياه رجع ابن آدم للعدم قلت : ياه تراب بيحيا ... وحي بيصير تراب الأصل هو الموت و الا الحياه ؟ !!! ))**
- كانت الطفولة التي تركته راحلة من عشرين عاما مرت عليه ، دهسته ، مزقت فيه براءته واحتياجه للهدوء . موت طفولته الجنين الذي لم يستمتع به ، الأحضان التي يتذكر دفء قلب أصحابها ، القبلات التي لا تحمل أغراضا غير أن توصل له رسالة مهمة : أنه ولد مجرم شقي لا يعرف الحزن .ـ
- (( علـم اللوع اضخـم كتاب فى الأرض بس اللى يغلـط فيـه يجيبـه الأرض أمـا الصــراحة فأمـرهـا ســاهل لكن لا تجـلب مـال ولا تصون عرض !! ))**
- ها قد جاء الساحر ونصب طاولته في صحن الميدان الذي يطل عليه الشارع الذي يسكن فيه ، ينزل بسرعة الملهوف على درجات السلم الكبير للبيت ، يركب سور السلم ويتزحلق بخفة الريشة الناعمة في هواء النسيم .ـ
- يركل في طريقه للميدان كل ما يقابل حذائه من حصى ، وعلب وزجاجات فارغة .ـ
- يقف منتبها للساحر ، فيطل عليه ساحره مبتسما رافعا له قبعته ، قائلا : (( أطلب واتمنى ، الدنيا معايا هتصبح جنة )) .
- ينظر إليه وفي وجهه ألف ألف ابتسامة : (( عايز يمامه )).ـ
- (( يا باب يا مقفول ... إمتي الدخول صبرت ياما و اللي يصبر ينول دقيت سنين ... و الرد يرجع لي : مين ؟ لو كنت عارف مين أنا كنت أقول !!! ))**
- يخرج الساحر من قبعته بعض الحَب ويضعه في يده ويخبره أن ينادي على يمامته ، عندها يرد عليه بأن دوره تم ويتبقى دوره ليكمل له أمنيته .ـ
- يقبض على الحَب في يده ، ويدور حول نفسه ، يلف ويلف ويلف ، ويدور دورات مكتملة ، لا يكف عن الدوران ، فيدوخ ويسقط ، لكن رأسه ما زالت تلف كما كانت .
- يقع الحَب من يديه على الأرض الترابية ، لتأتي يمامته من علو لتسكن يده مكان الحَب المنثور.ـ
- --------------------------
- **الأبيات من رباعيات صلاح جاهـين
حكايات فلفلة وفجلة
- يحكى أن الأسد رجع بعد رحلة علاج خارجية في إحدى الغابات المتقدمة التكنولوجية ، والتي يعتمد مواطنوها على وجود العدل بينهم ، كعامل مشترك لوجودهم ومشاركتهم حياتهم .ـ
- بعدما استقر على أرض وطنه المستتب الأمن والمحكم السيطرة ، أرسل لوزراءه ومستشاريه في إجتماع عاجل ، أخبر رئيس وزراءه أنه سيناقش أمرا خطيرا لا يحتمل التأجيل .ـ
- في الموعد والمكان المحددين كان الكل منتظرا طلعته المبعككة ، وصورته المرتقة ، سرح بعضهم بخيالاته بعيدا يحاول تهدئة نفسه المرتبكة ، وأخذ البعض يأكل في أذان البعض الأخر رغيا وتهبيلا .؟ـ
- وعلى مقربة منهم كان الببغاء ـ أحد مواطني الغابة المساكين ، واقفا على شجرة التين .ـ
- هب فجأة رئيس الوزراء صاحب السعادة _ الفيل _ على رجل واحدة باسطا خرطومه الطويل رافعا جناحا أذنيه بوضع أفقي عجيب كأنه يؤدي دوره في السيرك وقال :ـ
- أيها الجمع الكريم ، والسادة الكرام ، أود إبلاغم أننا هنا جئنا لنناقش وضع البلاد ، لنكون على بينة من الأمر ، وعلى أهبة الاستعداد .ـ
- سكت الفيل المبروم ، بعد تصريحه المشئوم ، وتناول طرف الحديث وزير المالية القرد ، خفيف الوزن والقد ، وقال :ـ
- زملائي الكرام ، وزراء التجارة والأموال ، أود أن ابلغكم ، أني سوف أفرض ضريبة جديدة ، تكملة لمشواري الذي ابتدأته ، ودوري الذي انتهجته ، فلن أتخلى عن موقفي من جمع النقود ، فقط سأمضي في قراراتي ولن أعود .ـ
- لم ديلك عننا بقى .. يا رب يتعلق منك في شجرة ويتقطع .. "همس الببغاء "ـ
- أخواني الطلبة .. أسف ، أقصد أخواني الوزراء الطيبين ، أنا الحمار الوحشي وزير التعليم ، تعرفونني جيدا ، فقد ملأت الغابة صياحا وتصريحات ، وعرفت بعد عدة جولات وصولات ، أن التعليم في البلاد ، أساسه الضرب والاستعباد، فلا بد أن يرجع زمن السياف والجلاد ، حتى نحظى بشرف تربية الأوغاد .ـ
- حمار .. هيكون إيه يعني .. حمار .. "همس الببغاء مجددا"ـ
- جاء دور ـ وزير الداخلية ـ الثور ، فبلع ريقة المذاب ، وخبط بفردتي القبقاب : يا معشر البقر ، أقصد أيها النجوم والقمر ، جئت اليوم بناءا على الطلب ، لكنني تركت ورائي النار تشتعل في الحطب ، فكفانا قولا وخطب ، وتلخيصا لمراد القول ، فليس لنا غير رئيسنا الأسد ذو القوة والحول ، لكننا حقيقة محاصرين من الثوار والمناهضين ،ـ
- يا ابن التيييييييييييييت .. "صاح الببغاء" ، والتفت حولهم الوزراء .. لكنهم لم يستدلوا على مصدر الصوت .ـ
- رفع الذئب ـ رئيس الديوان ـ حاجبيه ، وأطلق للأمام ناظريه : أيها الجمع الكريم الشهير ، أيها الأشاوس والمغامير ، لا أعلم سببا للجمع واللقاء ، إلا أنني أتوقع من الرئيس الدوام والبقاء ، فادعوا الله معي أن يعطيه الصحة ، وأن يمنن عليه بالصبر وأن يكفيه شر السعال والكحة ، وان يبدله بمرارة غير مرارته ، وشعبا خيرا من شعبه .ـ
- وعلى الفور لهجت ألسنتهم جميعا بالثناء للرئيس ، وبتمديد الحكم في أسوء الأحوال للوريث .ـ
دفتر أحلامي
- دفتر أحلام
- الصحفه الأولى مليانه كلام
- والتانيه كلام ..
- والتالته والرابعه والخمسه كلام ..
- الخمسه وعشرين ملفوفه
- انما ايه م الفاضي .. كلام ..
- الستين ... والميه
- حبة كدب ، وشوية أوهام
- فين الأحلام ؟
- .. اقلب اقلب
- وأقلب وأقلب
- أطلع وأخرج
- مرة أتشقلب
- ميه وسبعين
- ميه وتسعين
- يا سلام يا سلام
- والله يا جماعة
- اجدعها كلام ..
- قلنا م الفاضي
- وعبي يا بكينام ..
- مفضلشي غير صفحة
- خطوه لقدام ..
- اقلبها
- ولا ارجع بحكايتي ..
- ساكت يا حمام ..
- ساكت مدبوح
- زيك يا حمام ..
- (( خطوه مبتضرش
- خطوه لقدام ..))
- اسكت يا حمام ..
- (( خطوه يا دلوعة
- خطوة لقدام
- لا هينفع ليك
- وقفه ولا رجوع
- إمشي لقدام
- اقلب وافتحها
- افتح بسلام ))
- أخر صفحاته
- كتاب الأحلام
- أخر خطواتي
- خطوة لقدام
- أخر صفحاته
- بيضا ومفيهاش
- أيها أحلام
- دفتر أحلامي
- مفيهوش أحلام
- دفتر أحلامي
- خاوي الأحلام
أنا وهي وعمرو أديب
- تأتي إلي كعادتها ، يلف عينيها السواد تعبا وإرهاقا ، تشكي لتحكي ، تسب وتلعن في .
- أعلم أني كثيرا ما أرهقها وكثيرا ما أشبعها نكدا وهما ، لكننا تجمعنا على مصير واحد وفي جسد واحد ، ليس بيننا فكاك إلا موت مقدر سنلقاه أجلا أم عاجلا .
- تبدرني بالشكاية : تعبتني .. غلبتي ، مرمتني .
- أنا : انت هتغني عليه؟
- نفسي : ههههه . وأنت بتسمعني أصلا ، أنت عايش حياتك ومنفضلي .
- أنا : منفضلك ؟! إيه الكلام الأهبل ده .. وبعدين أنت من أمتى بتتكلمي بالأسلوب ده .
- نفسي : إيه أذنبت أنا ، ولا عملت جريمه ؟ متحبسني أحسن ، أكتم على أنفاسي ! أهو ده اللي ناقص كمان .
- كانت تكلمني من مسافه قصيره جدا .. تقف خلف أذني مباشرة . ضايقني اقترابها ، وتهكمها ، فنهرتها وزجرتها شاخطا : وحياة مامتك . ما بلاش أنت النهارده ، متلعبيش في عداد دموعك ، همرمط بكرامتك الأرض .
- نفسي : لا والله حمش ، كبرت عليه أهو وطلعلك صوت . سبحان العاطي الوهاب . غني عليه غني ، يلا أنا سمعاك ؛ أعمل فيها سبع رجالة .
- أنا : يا فتاح يا عليم ، يااااااااااا رب ارحمني .
- نفسي : يا بني متحاولش ، أنا قدرك ونصيبك ، وراك وراك ، ومتستعجلش ع الفراق ، هيجي يوم وتفارقني بس ساعتها مش هيبقى ليك وجود ، يعني من الأخر أنا أساس وجودك كبني أدم . افهم بقى .
- أنا : يا سلام على النباهة ، ده انتي بتطلعي حكم النهارده .
- نفسي : ولسه . انت لسه شفت حاجه .
- أنا : هات ما عندك يا بنت .......... الحلال .
- نفسي : ذاكرني كويس ، أفهمني بقى عشان متتعبنيش ، فضيلي نفسك شويه ، خلي عندك دم وبصلي .
- أنا : زيديني .
- نفسي : متتغمش على حاجه ، الدنيا متستهلش كل ده ، روق كده وعيشها .
- أنا : اللي بعده .
- نفسي : متزقش كده . ومتشخطش فيه .
- أنا : طب أنجزي مش فاضيلك ، ورايا هم ما يتلم .
- نفسي : يعني وراك الديوان يا خي .
- أنا : وانت مال أهلك ، ورايا ايه ؟ أنت مالك .
- نفسي : طيب ما تسمعني حاجه حلوه كده .
- أنا : فطير مشلتت .
- نفسي : خفيف الدم قوي انت . يلطش . سم مكرر .
- أنا : .........................
- نفسي : أنا أسفه . مكنتش اقصد أزعلك .
- أنا : ........................
- نفسي : خلاص بقى ، مقصدتش .
- أنا : .........................
- واختفى حسها ، ولم أحس بأنفاسها القريبه . ولم يعد هناك صوت لها غير ما يتردد بعقلي من صدى أفكارها اللعينة .
- أنا : الحمد لله . خلصت منها ، دي زنانه بشكل يقرف . رغايه ، أنا مش عارف مستحملها ازاي كل ده . لو ينفع أرفع عليها قضية خلع ، كنت ارتحت منها من زمان المؤذية بنت ..........
- فجأة وعلى غير المتوقع أسمع صوتا بخارج غرفتي ، أتجه للصالة مسرعا ، فلا أرى شيئا قد تغير ، كل شيء في مكانه تماما ، لكني لا أستطيع أن أكمل النظر ؛ أفرك عيني بقوة ، أحاول أن أزيل ما يحجب عني النظر ، متجها لغرفتي .
- أفتح التلفاز لأنسى ما حدث ؛ فيظهر لي وجه اللامع ذو الصلعة اللامعه عمرو أديب وهو يقول ببلاهة : الفرخة دي مش أنا اللي بشويها رجاء هيه اللي بتقليها .
- .
- .
- .
- نفسي : لأ ليك حق تتنكد بصراحة . حقك عليه أنا غلطانة
سكة اللي يروح ميرجعش
- فين الألم ،
- فين السكات ويا الندم ،
- فين حسك - الدنيا -
- ودنياك النغم ؟!
- ياللي كتبت النفوس عاليه ومرضيه ..
- هي حكاية شوق ؟
- ولا الدموع هي ؟
- لامس وريد الزعل ،
- والرمش ما نسينا
- قبلك مكاني انشغل ،
- ولا فضيت لينا !
- بشرب حبوب النوم ،
- يا زين مشاريبي
- حسك معايا اليوم ،
- ولا مداري بي
- خلتك شفايف دهب
- وحبستها في قلبي
- خوفي لتصبح عجب
- مني ولا تلبي
الأحد، 14 مارس 2010
بين اللحى والنقاب يتناحر الذباب
اخرج ـ كعادة أهل مهنتي ـ باكراً ، محتسباً ظروف الطريق والمواصلات والزحام والمقدر والمستخبي ـ واللي منعرفوش ـ حاملاً بين يدي حقيبة مملوءة بالهموم والطعون وأحكام القضاء والقدر ، مخلفاً ورائي كل معطيات الأمس ونتائجه .
أركب الميكروباصات عادة والميني باصات غالباً والمترو دائماً والأتوبيسات المكيف منها والمميز والعادي أحياناً والتاكسيات عاجلاً متعجلاً ، وليس ذلك ترفاً مني أو ـ قنعرة ـ وفخراً كاذباً ، ولكن من لسعته الشوربة وجب عليه أن ينفح في سلطانية الزبادي .
أي نعم فالسرقة حدها في الشريعة الإسلامية قطع اليد ، وفي القانون الحبس إن كانت جنحة بسيطة أو السجن إن اتصل بها ظرف مشدد كالإكراه أو أن تكون قد تمت في جنح الليل المظلم ، بل إنها إن كانت كذلك ، فإنها قد تبيح القتل كرد فعل طبيعي شرعي للدفاع عن المال كحالة الدفاع عن النفس أو عن العرض والشرف .
ولك يا سيدي أن تمنح نفسك كل الحيطة والحذر إن كنت من ركاب الأتوبيس الدائمين ، فلن تنجو في إحد المرات من سطو غير شرعي على ممتلكاتك الظاهرة والباطنة ، وإن كنت يا قارئي أنثى حسيبة النسب والأصل ، فلن تفلتي من سطو على ما هو أغلى وأثمن ولن تجديك في هذا الأمر أي حصانة أو مناعة .
ما علينا .. ولأنني هنا لست بصدد الحديث عما سبق ذكره ، لكنه هكذا الحديث دائماً يتبع بعضه بعضه .
المهم يا أخوتي الأعزاء ، ألتقي أثناء ركوبي الميكروباص شخصاً لم ألقه منذ شهور ، فتى وسيماً ، يبلغ من الأعوام بعد العشرين بسنتين ، حاصلاً على مؤهل متوسط ، يلبس لباساً إفرانجياً ـ تي شيرت وبنطال من الجينز ـ ذو لحية ظاهرة ، ونظارة عدساتها مقعرة ، منزوياً في ركن بالكرسي قبل الأخير ، أسلم عليه وأجلس جانبه ، نتسابق كلانا لدفع الأجرة فيدفع للراكب الذي يجلس أمامنا بيده اليمنى ممسكاً يدي بيده اليسرى رافضاً أن أدفع بدلاً عنه .
نتشاطر أطراف الحديث ، بعد السؤال عن الصحة والأحوال ، يسألني عن وجهتي ومكان قصدي فأخبره أنني ذاهب إلى محكمة مصر الجديدة الجزئية ، فيبتسم معرباً عن سعادته أنه سيستقل الترام معي مكملاً مشواره ذاهباً لمقر عمله بشارع هارون بمصر الجديدة .
هذه المرة أسبقه فأسدد نيابة عنه أجرة ركوبه الترام الحلزوني اللولبي ، ويستطرد معي حديثه ليخبرني عن فشله في خطبته ، فاسأله عن السبب ، ليجيبني بأنها تخلت عما كانا قد اتفقا عليه رافضة ارتداء النقاب ، أقول له : طيب مش انت عرفتها من غير نقاب ؟ طيب ليه عايز تفرض عليها ده ، فيجيب : ايوه بس احنا اتفقنا انها تلبسه قبل ما نتجوز ، وقولتلها إنها لو لبسته وفضلت وكملت معاكي يبقى إحنا كده كويسين ، ولو محصلشي نصيب يبقى إنت كده استفدتي بإنك إلتزمتي .
سيطرت علي وهلة من الصمت وعقدت حاجبي في استغراب سائلاً إياه : طيب يا ابني ما هي وافقت وهيه مش عايزة ، وبعدين رجعت في كلامها إيه المشكلة يعني ، هوه النقاب ده هوه اللي هيخليكوا سعدا .
قال لي : يا باشا ما هو انت مش فاهم ، قلت له : مش فاهم ايه بالظبط ، قال لي : مش فاهم إنها لو لبست النقاب ده مش هتعرف تخلعه ، قلت له مازحا ً : ليه ؟ هوه بيتلبس مرة واحدة بس وبيتخيط عليها ؟ تصدق كنت فاكره بسوسته !
رد علي غاضباً : يا باشا النقاب ده لو الواحدة لبسته وبعدين جت قلعته ، يبقى حتحس إنها عريانه قدام الناس ، كأنها مش لابسه حاجه خالص ، ضحكت عجباً واستغرابا وقلت له مستفسراً عن السر ومستفزاً له : ليه ؟ هوه بيلزق في الهدوم اللي تحته ولما الواحدة بتقلعه بيطلع بيها .
زاد غضبه لكنه لم يفقد احترامه لي قائلاً : اسأل الشيوخ اللي تعرف ، هيقلولك كده ، اسالهم وانت تعرف . قلت له : من غير ما أسأل ، انت برده سبتها ليه ؟ النقاب هو السبب الوحيد ، رد علي وقال لي : بص يا باشا هيه قالتلي مش هلبس نقاب أنا هلبس اسدال ، لكن أنا قلتلها لأ ، أصل الإسدال ممكن تقلعه لكن النقاب لأ ، يا باشا أمها زانه في دماغها ، هخليها تنفعها ، أنا هروح عند أخوان طيبين ، وأشوفلي أخت كويسه منقبة ، وأشوفها الرؤية الشرعية ، مهو لازم الواحدة تكون جميلة برده ، مش هاخد على عمايا كده ، وهيه ـ يقصد خطيبته السابقة ـ خلي أمها تنفعها ، إحنا بصراحة كنا بنحب بعض ، بس أنا مينفعنيش تلبس بناطيل ، والوش يا باشا لازم يتغطى ، أيوه لازم يتغطى .
أسرح في خيالاتي مبتعدا بأفكاري عن كلماته الحمقاء ، لكنه يفاجأني قائلا : المحكمة ، يلا انزل يا باشا المحكمة جت .
أنزل من الترام متوجها إلى مكتب شئون الاسرة بمحكمة الأسرة لأحضر مع زوج ملتحي في نزاع شرعي ضد زوجته المنقبة ، أمام خبيرين نفسي وإجتماعي لمعالجة المشكلات الأسرية قبل رفع النزاع إلى المحكمة في حالة عدم التوفيق بين المتاخصمين .
تتوالى الإتهامات على موكلي الزوج ذو اللحية الكثيفة من زوجته المنقبة بأنه لا ينفق عليها وعلى أولادها ، وأنه دائم التعرض لها بالضرب والسب ، وتستمر في إلقاء الإتهامات مؤيدة كلامها بحلف يمين الله على صدق كلامها وأقوالها
يرد الزوج عليها إدعاءاتها حالفاً بالله مشهداً الحاضرين على كذبها .
أتركهم منصرفاً ، رافضاً الجلوس ، تاركا الأمر لله ، فهو الحسب وهو نعم الوكيل .
أركب الميكروباصات عادة والميني باصات غالباً والمترو دائماً والأتوبيسات المكيف منها والمميز والعادي أحياناً والتاكسيات عاجلاً متعجلاً ، وليس ذلك ترفاً مني أو ـ قنعرة ـ وفخراً كاذباً ، ولكن من لسعته الشوربة وجب عليه أن ينفح في سلطانية الزبادي .
أي نعم فالسرقة حدها في الشريعة الإسلامية قطع اليد ، وفي القانون الحبس إن كانت جنحة بسيطة أو السجن إن اتصل بها ظرف مشدد كالإكراه أو أن تكون قد تمت في جنح الليل المظلم ، بل إنها إن كانت كذلك ، فإنها قد تبيح القتل كرد فعل طبيعي شرعي للدفاع عن المال كحالة الدفاع عن النفس أو عن العرض والشرف .
ولك يا سيدي أن تمنح نفسك كل الحيطة والحذر إن كنت من ركاب الأتوبيس الدائمين ، فلن تنجو في إحد المرات من سطو غير شرعي على ممتلكاتك الظاهرة والباطنة ، وإن كنت يا قارئي أنثى حسيبة النسب والأصل ، فلن تفلتي من سطو على ما هو أغلى وأثمن ولن تجديك في هذا الأمر أي حصانة أو مناعة .
ما علينا .. ولأنني هنا لست بصدد الحديث عما سبق ذكره ، لكنه هكذا الحديث دائماً يتبع بعضه بعضه .
المهم يا أخوتي الأعزاء ، ألتقي أثناء ركوبي الميكروباص شخصاً لم ألقه منذ شهور ، فتى وسيماً ، يبلغ من الأعوام بعد العشرين بسنتين ، حاصلاً على مؤهل متوسط ، يلبس لباساً إفرانجياً ـ تي شيرت وبنطال من الجينز ـ ذو لحية ظاهرة ، ونظارة عدساتها مقعرة ، منزوياً في ركن بالكرسي قبل الأخير ، أسلم عليه وأجلس جانبه ، نتسابق كلانا لدفع الأجرة فيدفع للراكب الذي يجلس أمامنا بيده اليمنى ممسكاً يدي بيده اليسرى رافضاً أن أدفع بدلاً عنه .
نتشاطر أطراف الحديث ، بعد السؤال عن الصحة والأحوال ، يسألني عن وجهتي ومكان قصدي فأخبره أنني ذاهب إلى محكمة مصر الجديدة الجزئية ، فيبتسم معرباً عن سعادته أنه سيستقل الترام معي مكملاً مشواره ذاهباً لمقر عمله بشارع هارون بمصر الجديدة .
هذه المرة أسبقه فأسدد نيابة عنه أجرة ركوبه الترام الحلزوني اللولبي ، ويستطرد معي حديثه ليخبرني عن فشله في خطبته ، فاسأله عن السبب ، ليجيبني بأنها تخلت عما كانا قد اتفقا عليه رافضة ارتداء النقاب ، أقول له : طيب مش انت عرفتها من غير نقاب ؟ طيب ليه عايز تفرض عليها ده ، فيجيب : ايوه بس احنا اتفقنا انها تلبسه قبل ما نتجوز ، وقولتلها إنها لو لبسته وفضلت وكملت معاكي يبقى إحنا كده كويسين ، ولو محصلشي نصيب يبقى إنت كده استفدتي بإنك إلتزمتي .
سيطرت علي وهلة من الصمت وعقدت حاجبي في استغراب سائلاً إياه : طيب يا ابني ما هي وافقت وهيه مش عايزة ، وبعدين رجعت في كلامها إيه المشكلة يعني ، هوه النقاب ده هوه اللي هيخليكوا سعدا .
قال لي : يا باشا ما هو انت مش فاهم ، قلت له : مش فاهم ايه بالظبط ، قال لي : مش فاهم إنها لو لبست النقاب ده مش هتعرف تخلعه ، قلت له مازحا ً : ليه ؟ هوه بيتلبس مرة واحدة بس وبيتخيط عليها ؟ تصدق كنت فاكره بسوسته !
رد علي غاضباً : يا باشا النقاب ده لو الواحدة لبسته وبعدين جت قلعته ، يبقى حتحس إنها عريانه قدام الناس ، كأنها مش لابسه حاجه خالص ، ضحكت عجباً واستغرابا وقلت له مستفسراً عن السر ومستفزاً له : ليه ؟ هوه بيلزق في الهدوم اللي تحته ولما الواحدة بتقلعه بيطلع بيها .
زاد غضبه لكنه لم يفقد احترامه لي قائلاً : اسأل الشيوخ اللي تعرف ، هيقلولك كده ، اسالهم وانت تعرف . قلت له : من غير ما أسأل ، انت برده سبتها ليه ؟ النقاب هو السبب الوحيد ، رد علي وقال لي : بص يا باشا هيه قالتلي مش هلبس نقاب أنا هلبس اسدال ، لكن أنا قلتلها لأ ، أصل الإسدال ممكن تقلعه لكن النقاب لأ ، يا باشا أمها زانه في دماغها ، هخليها تنفعها ، أنا هروح عند أخوان طيبين ، وأشوفلي أخت كويسه منقبة ، وأشوفها الرؤية الشرعية ، مهو لازم الواحدة تكون جميلة برده ، مش هاخد على عمايا كده ، وهيه ـ يقصد خطيبته السابقة ـ خلي أمها تنفعها ، إحنا بصراحة كنا بنحب بعض ، بس أنا مينفعنيش تلبس بناطيل ، والوش يا باشا لازم يتغطى ، أيوه لازم يتغطى .
أسرح في خيالاتي مبتعدا بأفكاري عن كلماته الحمقاء ، لكنه يفاجأني قائلا : المحكمة ، يلا انزل يا باشا المحكمة جت .
أنزل من الترام متوجها إلى مكتب شئون الاسرة بمحكمة الأسرة لأحضر مع زوج ملتحي في نزاع شرعي ضد زوجته المنقبة ، أمام خبيرين نفسي وإجتماعي لمعالجة المشكلات الأسرية قبل رفع النزاع إلى المحكمة في حالة عدم التوفيق بين المتاخصمين .
تتوالى الإتهامات على موكلي الزوج ذو اللحية الكثيفة من زوجته المنقبة بأنه لا ينفق عليها وعلى أولادها ، وأنه دائم التعرض لها بالضرب والسب ، وتستمر في إلقاء الإتهامات مؤيدة كلامها بحلف يمين الله على صدق كلامها وأقوالها
يرد الزوج عليها إدعاءاتها حالفاً بالله مشهداً الحاضرين على كذبها .
أتركهم منصرفاً ، رافضاً الجلوس ، تاركا الأمر لله ، فهو الحسب وهو نعم الوكيل .
الخميس، 11 مارس 2010
فناء
منتهى الإدراك أن تتلفظ بالتوبة حينما تمتلئ كأسك بالأثام ، وتتجلى على إثرها فيك رغبتك للتخلص منها ، تكون قد تجرعت من ذات الكأس التي تعرف مذاق ثمالتها معرفة الخبيريبن المجربين । لن تنجو ـ صدقني ـ مما سيعلق بلعابك من طعم مرير ، ولا يملأ حلقك غير الجفاف ।لن تطعم بعدها طعاما ـ خوفا من إختلاط ذلك الإحساس بالحواس ॥ فهي الحواس ليس لها الفكاك من براثن دوام الأثر القديم للجرح النازف من جفاف جوفك وغباء نزواتك ।لن تجديك الذكريات ॥ ولن تنفعك ما حملت من تذكارات ॥ فكلها تقبع حولك ساكنة بل إن وجودها يثير حنقك أكثر فأكثر ، فما أقسى أن تتذكر ليلات القرب وأنت في مجاهل البعد السحيق ।هذه اللظى ॥ وهذه الجحيم المستعرة التي تنبعث من عقلك الأن ما هي إلا عود ثقاب ظللت تحافظ على شعلته الرقيقة دائما كي يكون هديا لك وقربانا للظلام الذي لم يتبدد رغم استمرارك في الحرص وحرصك على الاستمرار ।معادلاتك الخيالية الخائبة التي بنيتها على أساس مذبذب كانت في حاجة لعامل حفاز مؤثر لكي تعطيك نتاجا مرضيا ॥ ووقتما كان لك الحصول على المحفز القوي كان يتوجب عليك إختيار موادك الكيميائية بعناية الخوف من الموت لا بحب البقاء .كان عليك وجوب اتباع التعليمات لا أن تبتكر الخرافات ، فمن ذا الذي وضع بقلبك أن لهيب النار يرضى اختلاطه بقطر الماء ، أو أن ذرات التراب تسعى للسكن خلف أبواب الرياح .كلها همهمات ॥ هي أضغاث أحلام ليس لنا فيها التأويل ، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ।هي التي تلف لتدور ، وأنت الذي تقف لتثبت ، هي التي تسافر لتتخطى وتعبر ، وأنت الذي تنعقد من حولك سلاسلا لتصنعك صنما زجاجيا ليس له لون ॥ ليس له جوف ॥ ليس له روح ।إنهرت كما إنهارت دموعك إثر زوال شمس غرورك ، وأطبقت شفتيك واجما كما أطبقوا شفاههم حزنا على ذوبان روحك الساخرة ।حُملت أكثر مما تطيق عوضا عن فقدك ما كنت في رحابه تشتاق وما كنت في حضوره أروع وأجمل وأكمل تقربا منك إلى الفناء الغادر
---------------------------
وللحديث بقية تأتي
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)